حدث في المشفى الوطني بادلب

حدث في المشفى الوطني بادلب
كان "غالب العسّال" آخر من غادر المشفى الوطني في إدلب قبيل تحريرها، و لم يعرف.. و ربّما لن يعرف أحد أبداً سبب بقائه هناك وحيداً بعد أن غادر الجميع المكان منذ اليوم السابق للمعركة. 

"العسّال" لم يكنّ موظّفاً في المشفى، لكنّه كان على علاقة وثيقة بكلّ من يعملون فيه، و كان من الممكن القول إنّه الرجل الوحيد الذي يعرفه الجميع هناك، و مهما تغيّرت طواقم العمل.. فلا مناص من إقامة علاقة عمل معه، فلقد كان يستطيع أداء أيّ شيء يطلب منه مهما كان صعباً.. دقيقاً.. طارئاً.. مهمّاً.. أو سخيفاً، باختصار.. كان بإمكانه إصلاح جهاز التصوير الشعاعي، و كان أيضاً يقضي حوائج الناس البسيطة، ربطة خبز.. طلب تكسي.. تعبئة وحدات، إلخ. 

في اليوم الذي سبق المعركة، و كان يوم جمعة، حضر "المحافظ" بعد العصر إلى المشفى مع قطيع صغير من الشبّيحة، فأمر بإفراغ المشفى تماماً من جميع نزلائه الأحياء و الأموات، فتمّ حتّى إفراغ البرّادات من الجثث التي مات أصحابها خلال الأيّام القليلة الماضية، و إخلاء جميع المصابين و المرضىى و إعطاء الأوامر بإغلاق المشفى و تركه. 

سيبدأ التشويق منذ هذه اللحظة، فلقد انصرف الجميع فور الانتهاء من عملية الإخلاء، لكن ثلاثة أشخاص أحياء ظلّوا في المشفى، و "عسّال" ليس واحدا منهم.

الأشخاص الثلاثة كانوا حسب ترتيب أرقام "الحاضنات" التي كانوا يقيمون فيها بغرفة إنعاش الخُدّج في قسم التوليد: غيث.. يوم، سمر.. يومان و نصف، و مُثنّى.. أربع عشرة ساعة، هؤلاء الثلاثة ظلّوا في المشفى على هذا النحو حتّى ساعة الصباح المبكر يوم السبت حيث تمّ اقتحام المشفى فعثر فيه عليهم و على جثّة رجل قتيل في بهو الطابق الثاني لم تُعرف هويته و لم يعرف بعد أبداً، و هو ليس "عسّال". 

"عسّال" استقبل المقاتلين عند الباب الخلفي للمشفى، بقامته الفارعة النحيلة و وجهه المخيف الذي لا ينمّ عن أي شيء آخر، وقف في قلب الاشتباكات منذ الساعة التاسعة من ليل الجمعة، و لمّا وصلت المجموعة التي اقتحمت المشفى وجده عناصرها مرمياً عند الباب مضرّجاً بدمائه، و كان يلفظ أنفاسه الأخيرة.. يحاول أن يحرّك إحدى يديه في محاولة للإشارة نحو شيء ما، و كان يُحشرج: التو.. ئي، تو.. ئييد، ليد، و مات. 

يمكن من القصّة فهم أنّه كان يحاول أن يقول: "التوليد"، في مسعى منه إلى إعلام المقاتلين بمكان وجود الأطفال الثلاثة في الطابق الثاني من المشفى، من أجل إنقاذهم. 

لهذه القصّة ثلاث نهايات، واحدة مُفرحة، واحدة مُمتعة، و الأخيرة ...

ففي الحقيقة.. و هذه هي النهاية المفرحة للقصّة، تمّ بالفعل العثور عليهم و نقلهم على الفور و بعناية طبّية فائقة و حاضرة إلى مكان أو أمكنة أخرى، خان شيخون ربّما أو كفردريان أو منطقة أُخرى، ثمّ تمّ الاستدلال على أهلهم واحداً واحداً. 

النهاية الممتعة للقصّة.. أنّ "غيث" الذي كان الخُديج  المقيم في الحاضنة رقم واحد، صار بعد سبعة و أربعين سنةً من التاريخ الذي حدثت فيه القصة هذا العام.. رئيساً دستورياً ناجحاً لسوريا، و نالت "سمر" أهمّ جائزة عالمية في الآداب، و ظلّ "مُثنى" حيّاً.. لكنّما مجهول المصير. 

لكن.. مرّ وقت طويل إلى حين "يوم القيامة" حتّى أمكن معرفة ماذا كان يفعل "غالب العسّال" في المشفى الوطني بإدلب وحده و معركة تحريرها مُشتعلة و الخطر داهمٌ في كلّ مكان حوله ؟، و من هو ذلك الرجل القتيل الذي عُثر عليه في البهو و لم تعرف هويته؟، ومن الذي بدّل يا تُرى السوار البلاستيكي الذي كان في معصم "غيث" بالسوار الذي وضع في معصم "مُثنّى" بعد ساعات من ولادة كلّ منهما.. و لماذا؟!. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات