قامت "الثورة السورية" بالفعل على أكتاف جزء كبير من طائفة أو طيف سوري واحد، أي على عاتق جزء كبير من "السنّة السوريين".
هذا صحيح ولا يمكن لأحد إنكاره، ولقد عانى السوريون الأحرار الذين قدّموا أعظم التضحيات وأغلى الأثمان جرّاء انخراطهم في الثورة الأمرّين، ممّا نكّل بهم نظام الحقد والوحشية والطائفية، وممّا عانوه بسبب عدم مشاركة الطوائف السورية الأخرى ومساندتها للثورة والثوّار ومطالبهم الوطنية، إن لم يكن الوقوف بكلّ ضراوة وقوّة غاشمة في وجه ذلك، كما فعل أغلب "العلويين" بلا أيّة ذريعة سوى الاصطفاف إلى جانب نظام طائفي تنتمي أغلب قيادات عصاباته المؤثّرة والمتحكّمة في الجيش وأجهزة الأمن إلى نفس طائفتهم.
فلأسباب طائفية وبحجّة الدفاع عن مواقع الطائفة في السلطة وقف أبناؤها بكلّ ما أوتوا من وسائل وما قدّم إليهم من رُخَص للقتل والتنكيل في وجه "الثورة السورية" وأهلها، رافضين سماع صوت العقل ودعوات الحرّية وشعارات الوحدة الوطنية التي نادت بها الثورة منذ أيّامها الأولى "واحد.. واحد.. واحد، الشعب السوري واحد".
من جانب آخر فإنّ معظم "المسيحيين السوريين" قد رفضوا الثورة محتجّين باقتصارها على طيف واحد من السوريين وهم "السنّة" هذا في البداية، والسؤال هنا: كيف للثورات أن تشمل الجميع أصلاً إن لم يشارك بها الجميع؟.
طبعاً أعطت السياسة القذرة التي انتهجها النظام الطائفي بادّعائه "حماية الأقلّيات" أكُلها في تخويفهم على الرغم من كلّ السلم والحيادية التي شهدتها الثورة طوال ستّة أشهر منذ انطلاقها، وفي النهاية قدّم النظام لهم شكلاً آخر للثورة صنعه بنفسه مع حلفائه وشركائه وعمّاله وعملائه وهو الثورة الإسلامية المتطرّفة التي تقوم على إقصاء جميع من لا يرفعون شعاراتها ويخضعون لسياساتها غير الوطنية، ليتمسّك أغلب المسيحيين السوريين بماركة هذه الصناعة الرخيصة من أجل الثبات على موقفهم بعدم المشاركة على الأقلّ إن لم يكن دعماً للنظام.
وطبعاً كان للقيادات الدينية المسيحية على اختلاف مذاهب الطائفة دور رئيسي في دعم هذا الموقف بل في فرضه، ولقد أجابنا أحد القادة المسيحيين الدينيين بعد بداية الثورة بأسابيع قليلة عندما سألناه عن أسباب انتهاج هذا الموقف قائلاً وبالحرف: (لقد ألزمتنا تعليمات "الإكليروس" بعدم المشاركة)، و"الإكليروس" لمن لا يعلم هو النظام المرجعي الديني الذي يقود الكنائس المسيحية كلّ حسب مذهبها.
وقف "الإسماعيليون" في سوريا موقفاً مشابهاً لموقف المسيحيين السوريين باتّخاذ قرار جمعي أيضاً بعدم المشاركة بالثورة، بالرغم من أنّ الجوّ العامّ الذي ساد سابقاً وخاصّةً خلال فترة حكم حافظ أسد لدى معظم مثقّفي هذه الطائفة السورية وغيرهم والكثير من ضبّاط الجيش، كان جوّ معارضة ورفض للسطوة العلوية الجديدة على سوريا.
ويبدو أنّ لذلك أسباباً تاريخيةً تعود إلى سنة 1858 وما بعدها عندما أدّى الاقتتال بين العلويين والإسماعيليين في "اللاذقية" إلى إصدار "فرمان" يسمح للعائلات الإسماعيلية في اللاذقية بالانتقال إلى مدينة "سلمية"، المدينة السورية المشهورة بوجود الكثير من العائلات فيها والتي بعض أفرادها من "السنّة" وبعضهم من "الإسماعيليين" الذين اشتهروا عبر التاريخ بالتمرّد والانفتاح، لكنّهم لم يتمرّدوا على أسد ونظامه ولم ينفتحوا على "الثورة السورية".
وكانت السياسات التي اتّبعها النظام قبلها مع المسيحيين السوريين سبباً في تحييد الإسماعيليين وقبولهم بعدم المشاركة في الثورة على ما يبدو، وربّما كان للمرجعيات الدينية الخاصّة بالطائفة دورها في ذلك، رغم أنّها الطائفة الدينية السورية الأكثر علمانيةً.
الآن ومع تصاعد الاحتجاجات والمظاهرات ضدّ أسد ونظامه في "محافظة السويداء" التي يشكّل فيها "الموحّدون الدروز" الأغلبية العظمى من سكّانها، فإنّ الأصوات والتساؤلات والمهاترات وإشارات التعجّب أو علامات الإعجاب ما فتئت أيضاً تتكاثر وتتصاعد، بين من يستغرب من هذا الحراك وتوقيته، أو بين من يشكّك في مصداقيته وجدّيته، وبين من يعتبره طفرةً أو نزوةً أو فورةً مثل فورات سابقة عديدة من خلال مظاهرات جرت في "السويداء".
وبين من يؤكّد أنّها ثورة جدّية جديدة ونهائية لن يمكن التراجع عنها، وبين من يعتبرون حراك "السويداء" ذا طابع انفصالي لا يمتّ للوطنية ولا للثورة السورية بصلة، عدا عن الاختلاف في تقييم وتصنيف أسباب نشوب هذا الحراك أصلاً، وبين من يعتبرونه ثورة جوعى سيتوقّفون عن مطالباتهم مقابل تحسين ظروفهم المعيشية، وبين من يعتقدون أنّها ثورة عزّ وكرامة آن لها أن تقوم الآن بعد أن اكتملت فيها عناصر الرفض والغضب ولو متأخّرة وبدوافع أو لأسباب اقتصادية أو حتّى عاطفية.
باختصار، بين من يؤمنون بأهمّية وقدرة هذا الحراك على إحداث تغيير وانتقال حقيقي في مسيرة الثورة السورية لإسقاط النظام، وبين من هم يائسون من إمكانية حدوث أي تغيير في المشهد السوري.
الحقيقة، لا يمكن تحليل الموقف بشكل كامل أبداً، ولا يمكن إعطاء تنبّؤات نهائية لما يحدث، لكنّ الواقع يُشير وبقوّة إلى أنّ الخطوات التي شرع السوريون الموحّدون الدروز بها تبدو واثقةً واثبةً وليست خجولةً متردّدةً أبداً.
والأهمّ أنّ هذا الحراك الذي اشتعل قد أخذ يمتدّ أفقياً ليشمل كلّ يوم أعداداً أخرى غفيرةً من المشاركين، كما ويرتفع عمودياً ليضمّ الكثير من القيادات والمرجعيات الدينية المحترمة والنُخب من المثقّفين والمتعلّمين، إضافةً إلى الاهتمام الدولي الذي تمّ التعبير عنه صراحةً.
ولقد كان للإعلام الثوري الوطني دور عظيم وما زال وسيستمرّ في التركيز على كلّ نقطة تظاهر وعلى الشعارات والمطالبات المرفوعة التي وصلت إلى شعارات ومطالب "الثورة السورية" بكلّ تأكيد.
لا يمكن الخوض أو البحث عن إجابة عن السؤال التالي الذي يسأله الكثيرون من أهل الثورة ومن غيرهم الآن وهو" لماذا الآن؟، وليس الجواب أبداً هو "أن تصل متأخّراً خير من ألّا تصل"، لا.. فلقد يكون الوصول المتأخّر مشكلةً بل ومصيبة إن كان وصول مجاملة أو وصولاً بلا هدف، أو وصولاً بداعي المغادرة السريعة -لا سمح الله-.
أعجبني ما ذهب إليه الكاتب "ماهر شرف الدين" ابن "سوريا" و"السويداء" المحترم في وصفه لمأزق نظام أسد مع أهل "السويداء" من الموحّدين الدروز، حين قال ما معناه: لا هم علويون فيضبطهم ولا سنّة فيقصفهم!.
وهذه حقيقة يا للأسف، لكنّها تعبّر بكلّ وضوح ومباشرة عن طبيعة هذا النظام الطائفي السافل الذي بكلّ حقد ودم بارد قتل السنّة السوريين، وبكلّ وقاحة وصفاقة ادّعى حماية البقية فقتل من قتل من أبنائهم وهجّر من هجّر وأفقر من أفقر، والآن لنرَ كيف سيتصرّف "حامي الأقلّيات" مع هذا المدّ الثوري الجميل الذي بدأ يندلع مرّةً أخرى من "حوران" الجميلة سهلاً وجبلاً.
التعليقات (12)