التقسيم السوري الجديد

التقسيم السوري الجديد

بين آب 1920 وآذار 1921 أصدر قائد جيوش "فرنسا" في الشرق المفوّض السامي "هنري غورو" سلسلة من المراسيم التي عرفت بمراسيم تقسيم "سوريا" أو مراسيم تقسيم الولايات العثمانية في بلاد الشام.

عدّد الدكتور "وديع بشّور" الكاتب والباحث في التاريخ في كتابه "سوريا صنع دولة وولادة أمّة" معظم هذه المراسيم:

مرسوم فكّ أقضية "بعلبك" و"البقاع" و"راشيا" و"حاصبيا" عن "دمشق" وإلحاقها بجبل لبنان الذي تلاه مرسوم إعلان دولة "لبنان الكبير"، ومرسوم ترسيم الحدود مع "تركيا" الذي جعل شمال "حلب" ذا الأغلبية الكردية تحت التبعية التركية، ومرسوم ترسيم حدود "دولة دمشق" بفكّ "الأردنّ" و"فلسطين" عنها بعد إلحاقهما بالانتداب البريطاني بموجب اتّفاقية "سايكس بيكو" و"مؤتمر سان ريمو"، وتبعه مرسوم إعلان "دولة حلب" و"دولة جبل العلويين"، ثمّ مرسوم إعلان "دولة جبل الدروز" واعتبار "جبل العرب" دولة مستقلّة، تبعه مرسوم الإدارة الممتازة في "لواء إسكندرون"، ثمّ مرسوم الإدارة الممتازة في منطقة "الجزيرة".

حسب "بشّور"، ونظراً للمقاومة والرفض الشعبي أنشأت "فرنسا" سنة 1922 ما سمّي بالاتّحاد الفيدرالي السوري ثمّ الدولة السورية بين "دمشق" و"حلب" سنة 1925 فعاد "لواء إسكندرون" إليها في 1926، ثمّ صدر بيان المفوّض السامي "هنري بونسو" باعتباره مفوّضاً عن التابعية السورية وفق "قوانين الانتداب الفرنسي"، فضُمّت للدولة السورية جميع المناطق التي قُسّمت فيها بين عامي 1920-1921 عدا "فلسطين" والأردنّ" و"لبنان"، أي كلّ "سوريا" الحالية دون "الولايات السورية الشمالية" التي ألحقت بتركيا بموجب معاهدة "أنقرة" الأولى 1921.

والخلاصة أنّ "سوريا" بحدودها السياسية الحالية كانت وحتّى نهاية العهد العثماني جزءاً من ولاية كبيرة واحدة وهي "بلاد الشام" التي ضمّت على الأقلّ "الأردنّ"، "فلسطين" و"لبنان"، ثمّ ومع بداية العهد الفرنسي تعرّض هذا الجزء نفسه للتقسيم وللاقتطاع، والنتيجة ما خلصت إليه الخارطة السورية الحالية، بالأحرى الخارطة السورية حتّى 2012-2013 على أحسن تقدير، مع فارق جوهري واحد وهو التمييز بين التقسيم الواقعي والتقسيم الذي يعدّ قانونياً بموجب الاتّفاقيات الدولية والقرارات الأممية.

وهي في الحقيقة ليست سوى اتّفاقيات دول منتصرة في حروبها محتلّة ومتآمرة، لكنّ الغطاء القانوني الرسمي كان موجوداً، وهو ما أتاح تقسيم الكثير من الدول حول العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية خصوصاً، وتحت ذرائع وأسباب مختلفة وبأشكال عديدة، لكنّ أهمّ الظروف التي أدّت إلى تقسيم هذه الدول كانت بالطبع النزاعات والصراعات والحروب.

يمكن استخدام مصطلح "حروب التقسيم" عند الإشارة إلى الحروب التي أدّت إلى تقسيم الدول أو التي استهدفت ذلك أصلاً، لكن وفي الحالتين لا يمكن أن تتمّ عملية التقسيم ببساطة أو لمجرّد انتهاء الحروب أو عقد الاتّفاقيات بين الأطراف المُتناحرة، سواء تلك التي تتقاتل على الأرض داخل حدود الدولة تابعةً كانت لمواطنتها أو لا، أو تلك التي تتنافس من الخارج على السطوة والنفوذ كغنائم حروب تقليدية أو لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية وأوراق ضغط إستراتيجية مؤثّرة.

لكن وعلى مستوى الشعوب -وذا لبّ القصيد- فإنّ تقسيم الدولة الواحدة ومهما كان عمرها الزمني قصيراً نسبياً كسوريا مثالاً -وذي المسألة التي يفترضها هذا المقال- سيُنتج الكثير من المخاطر والمشاكل والتحدّيات، لِما سيترتّب على ذلك من آثار وتداعيات سياسية اقتصادية واجتماعية ستستمرّ سنوات طوالاً بعد الحرب التي استمرّت أيضاً الكثير من السنوات، وستدفع شعوب الدول المقسّمة في أكثر الأحيان أثماناً باهظةً لهذا التقسيم لأنّ الخسارات ستكون عامّةً على الجميع وإن تراوحت درجاتها وأشكالها، وقد تصعّد هذه الخسارات أو الأوضاع الجديدة غير المستقرّة مكانياً وزمنياً إلى حدّ ما من توتّرات جديدة كان هدف التقسيم الرئيس المُعلَن عنه كذباً وزرواً هو الخلاص منها أو التخفيف من آثارها.

من أهمّ التحدّيات والمشاكل والمسائل التي تُحدثها مشاريع التقسيم قبل أن تُنفّذ أصلاً فتكون أسباباً رئيسيةً لتأخّر تنفيذها ولسوء إنجازها وتفاقمها مشاكل ومسائل تقسيم الموارد بين الدول أو الأقاليم الجديدة المتشكّلة كموارد النفط والمعادن والمياه العذبة، كذلك وهذا مهمّ للغاية مسألة الانتماء والهوية الوطنية وملخّصها أن يرزح الناس لهوية جديدة في مكان تحكمه وفق الواقع المستجدّ هوية مختلفة بحكم الأغلبية السكّانية، أو أن تتشكّل في الأقاليم الناشئة على أشكالها هويات مزدوجة بثقافة جديدة منغلقة وغير فاعلة، وكذلك مسائل ومشاكل الحدود بين المناطق ذات القيمة الإستراتيجية أو الاقتصادية المرتفعة بسبب الموقع الجغرافي والطُرق والبنى التحتية المهمّة ومدى سهولة أو صعوبة التواصل مع الجوار ومع العالم.

إنّ عدم الوصول إلى حلول سياسية جذرية أو قانونية نهائية أدّى إلى تقسيم الدول في معظم حالات التقسيم التي عرفها تاريخ العالم الحديث بسبب الحروب عموماً إلى العديد من النتائج غير المحمودة، منها ما كان متوقّعاً ومنها ما كان حتمياً أو مُستهدفاً أصلاً، وأهمّها عدم الوصول إلى "استقرار نهائي" بسبب استمرار الصراعات مع الجوار المُنقَسَم عنه أو حتّى ضمن الدولة المنقسمة نفسها، أو بسبب تغيّر الأحوال الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

عدا عن التفرّق السياسي وتحدّيات إعادة الإعمار والاستقلال السياسي الحقيقي التي تتطلّب لمواجهتها الكثير من الوقت والجهد والنفقات، كما حصل في "ألمانيا" بعد تقسيمها بمفاعيل الحرب العالمية الثانية إلى شرقية وغربية، أو في "تشيكوسلوفاكيا" بعد تقسيمها إلى دولتي "التشيك" و"سلوفاكيا"، وكذا بعد تقسيم "يوغوسلافيا" إلى خمس دول مستقلّة "نسبياً"، وكما في حدث بين "أثيوبيا" و"أريتيريا"، "السودان" و"جنوب السودان"، "صربيا" و"كوسوفو".

والنموذج الأخطر والأكثر توتّراً بين بلدين مقسّمين تاريخياً وعالمياً هو تقسيم "الهند" و"باكستان" بعد الاستقلال عن "بريطانيا" سنة 1947، استقلالات مُنجَزة في الحقيقة لكنّها تشي بنشوب صراعات جديدة أو استفزازات من أيّ نوع في أوقات ما، لكنّ بعض حالات التقسيم وأغلبها ما حدث بسبب حركات تحرّر داخلية مؤدلَجة أو بهدف الانفصال بسبب عدم الانتماء إلى الكيان العامّ للدولة، أدّت إلى نشوء دول جديدة مزدهرة وغنية، مثل "سنغافورة" التي طُرِدت من الاتّحاد الماليزي سنة 1965 بسبب صراع سياسي بين الحكومتين، أو "تايوان" بعد استقلالها عن "الصين" سنة 1949.

على العموم فلقد جرى تقسيم الدول إلى دول أخرى أو إلى دويلات في معظم الحالات العالمية المعروفة والمشهودة وفق اعتبارات ومعايير مختلفة، فلقد يتمّ التقسيم "إدارياً" نظراً إلى التقسيمات الإدارية الموجودة أصلاً على أساس المحافظات أو الولايات أو الأقاليم، أو على أساس "ديني" بسبب انتماء سكّان أقاليم معيّنة إلى ديانات مختلفة عن ديانات سكّان أقاليم أخرى، أو على أساس "قومي" نظراً لاختلاف القوميات بين منطقتين أو إقليمين أو أكثر، ولقد يتمّ التقسيم أحياناً دون اهتمام أو اكتراث بأيّة اعتبارات ومعايير، كما تمّ تقسيم معظم "الوطن العربي" بعد الحرب العالمية الأولى وفق المعاهدات الدولية والإقليمية بالقلم والمسطرة!.

في "سوريا" يبدو مشروع التقسيم ناجزاً أصلاً، لكنّه يحتاج إلى قلم ومسطرة من نوع جديد، فالتقسيم أو التقسّم السوري أمر فعلي ومستمرّ منذ سبع سنوات على الأقلّ، حالة مفروضة فرضاً بسبب قوى الحال الراهنة أو الأمر الواقع وهي في الحقيقة ليست قوى داخلية أبداً، بل قوى من الداخل السوري أو في الداخل السوري لم يكن لها أن تقوم وتستمرّ وتستمرئ إلّا بالدعم الخارجي، دعم الدول والقوى المتحكّمة بالجغرافيا والاقتصاد وبالسياسة جبراً وغصباً عن كلّ أطراف وكلائها من "قوى الأمر الواقع".

أيضاً ففي "سوريا" ما زالت تبدو معرفة آلية أو كيفية تطبيق أو حدوث "سيناريوهات" محدّدة للتقسيم أمراً صعباً ومُعقّداً، ومن يعتقد أنّ الواقع السوري الحالي يحتّم إجراء القسمة وفق ما يلي:

شمال شرق "قسد"، وشمال غرب "الجولاني"، وما تبقّى سيكون حصّة ما تبقّى من نظام "أسد"، فهو غير معنيّ أو لا يريد أن يُعنى باعتبارات ومعايير التقسيم المذكورة، الإقليمية، الدينية، والقومية، ففي "سوريا" لن يمكن إجراء التقسيم إلّا بمعيار أو اعتبار واحد، لأنّ الكُرد ليسوا أغلبية في مناطق سيطرة "قسد" فيطبّق معيار القومية، ولا العلويون أو المسيحيون أو الدروز أغلبية في مناطق سيطرة حلفاء "أسد" ليطبّق معيار "الدين" أو بسبّة "الأقلّيات الدينية"، ولا السوريون المحاصرون في مناطق "الجولاني" وما جاورها في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون قادرون على التفكير أصلاً في استقلال إداري حتّى، ليتطلّعوا إلى استقلال سياسي أو جغرافي.

مع الإشارة أو التذكير بأنّ "سوريا" التي قُسِمت عن بلاد الشام ثمّ قُسِّمت إلى مناطق وفق الأغلبية الدينية أو المذهبية، فذا يعني العودة للتفكير بإعادة تقسيمها على النحو ذاته: مناطق "سنّة"، و"مسيحيون"، "علويون"، وموحّدون دروز"، وأمّا التقسيم على أساس قومي فيعني إنشاء مناطق مستقلّة للعرب وأخرى للأكراد بل وللتركمان والشركس أو الآشوريين وهذا صعب للغاية بل مستحيل، أو التقسيم على أساس إداري أو إقليمي فسيحتاج إلى قلم ومسطرة جديدين لأسباب سياسية عمياء كما حدث بفعل "سايكس بيكو" ومرفقاته.

في كلّ الأحوال.. إنّ التقسيم على أساس ديني أو قومي أو جغرافي هو المقتلة السورية الرهيبة التي يراد إنعاشها، مثلما انتعش التقسيم والتسليم الاستعماري الفرنسي بالوفاق والاتّفاق مع حلفائهم من الإنكليز وأعدائهم من الأتراك بعد الحرب العالمية الأولى لتقليص وتفتيت "سوريا" المقلّصة والمفتّتة أصلاً.

والتاريخ السوري الآن لا يُعيد نفسه ولا يكرّرها، بل يستمرّ استمراراً في عملية التقسيم المُعتَمدة والمتعمّدة تاريخياً وأقلّه منذ مئة عام، ويجري إنعاشها خلال هذه الحقبة المتردّية المُزرية من حياة شعوب هذه المنطقة في "سوريا" وغيرها، إلّا أنّ ما قدّمه نظام أسد من خيانة وسفالة وما نفّذه من إجرام وعمالة، بالشراكة والاشتراك مع شياطين الإنس ولربّما والجنّ أيضاً في هذا العالم القذر سيودي حتماً إلى هذه "المقتلة الرهيبة" التي سيدفع السوريون ولعقود قادمة ثمناً آخر كبيراً مضافاً إلى الأثمان المرعبة التي دفعوها بسبب ثورتهم على الشياطين. 

التعليقات (4)

    Namroud

    ·منذ 8 أشهر أسبوع
    صدقت ورفضكم للتقسيم ولسايكس بيكو ولمعاهدة لوزان هي نفس رفضنا لها، ولكن بمجرد ان نرفض شي وهو ما ترفضونه انتم تعودون وتقبلون به بسبب ان رفضكم للمشاريع الاستعماريه سيعيد حقوق الشعب الكردي الذي تستعمرونه بسبب تلك الاتفاقيات اليوم… يعني قرروا منشان نفهم شو عم يدور في مخكم المليمتر يسقط البعث يسقط الاخوان والدواعش يسقط سايكس بيكو

    سعيد

    ·منذ 8 أشهر أسبوع
    والأهم من نتائج تقسيم المقسم هو انشاء كيانات لايمكنها ان تكون ذات اكتفاء ذاتي (سكانيا او مياه او مواد اولية او سلة غذائية) فتكون بحاجة للدعم والحماية والنتيجة احتلال اقتصادي لأشباه الدول الفاشلة

    كورد

    ·منذ 8 أشهر أسبوع
    الجميع له الحق العيش مع كامل حقوقها دون اي استثناء ان كان داخل اراضي سورية او خارجها الجميع له حق بحياة كريمة . ماذا سافعل بدولة وانا اعيش فيها بدون كرامة وفقر واذلال .

    جابر

    ·منذ 8 أشهر أسبوع
    التقسيم وخاصة من المحيط الى الخليج تم اقراره في 1907 وبعدها وعد بلفور وزرع اليهود بفلسطين الى ما بعد الحرب العالمية الثانية واقرار دويلة اسرائيل في فلسطين بدعم صليبي مسيطر عليه ماسونيا وبعد أن قضى الماسون على المسيحية وأصبح المسيحيون عبيدا عندهم لتنفيذ أوامرهم ليس في فلسطين فحسب وانما في العالم حيث استمر التقسيم بأوامر الأمم المتحدة التي أنشؤوها تحت مسمى كبير نرى نتائجه الآن على الأرض وهو انشاء الحكومة العالمية . وبالنسبة لسورية والشرق الأوسط فتقسيم المقسم خططه موضوعة وبدأ التنفيذ في حرب العراق وايران وما جرى بعدها في المنطقة وسيجري تنفيذا لبروتوكولات حكماء صهيون ولتنفيذ النبوءات التوراتية في التجهيز لقدوم المسيا والذي يحضرون له لعام 2030 التاريخ الذي سيتم بموجبه انقاص عدد البشر عالميا الى المليار الذهبي. الأهم من هذا كله أن رب العالمين هو الذي أمر بمجيء اليهود الى فلسطين والذي حدده ببداية وعد الآخرة في سورة الاسراء الآية 104 والتي لا يذكرها المسلمون لأنهم يخافون منها لتعلقهم بالحياة وكره الموت بعد أن أصبحوا غثاء سيل لا فائدة منهم ورائحتمهم نتنة. فمن يتوقع أن تعود الحياة الى طبيعتها وسابق عهدها ويتعايش البشر مع بعضهم البعض من جديد فهو فاقد البصر والبصيرة اذا كان قرأ واذا لم يقرأ فدعه في غفلته. علائم الآخرة الصغرى شهدنا أكثرها ولم يبق الا اثنتان وهما ظهور المهدي عليه السلام ونزول سيدنا عيسى عليه السلام ليقتل الأعور الدجال.
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات