بين الحماية القانونية والحملات الأمنية

بين الحماية القانونية والحملات الأمنية

آخر عهدي بالحملات الأمنية المركّزة الموجّهة الشاملة والواسعة كان بعد دخول عصابات جيش أسد المجرمة إلى "إدلب" في 12/3/2012، رغم القيام بالعشرات والعشرات من "الحملات الأمنية" بعد ذلك وخلال ثلاث سنوات منذ ذلك التاريخ، لكنّ هذه الحملة الرهيبة التي أعقبت دخول قطعان أولئك الهمج الحثالة الرعاع كانت الأعنف، كيف لا وقد قيّض لهذه القطعان أن تدخل أخيراً إلى مدينة كان قد تمكّن أبناؤها الأحرار وخلال سنة سابقة على الأقلّ، من الخروج في مظاهرات عاصفة يوميّاً أسبوعياً وصباح مساء، فلا يخشى أحدهم من العودة إلى منزله فيبيت فيه نائماً على فراشه، ودون أن يفكّر حتّى بأن يجرؤ أحد على طرق بابه. 

كانت هذه أبشع "حملة أمنية" عاصرتُها وشهدتُها، لم أسمع عنها سمعاً ولا قيلَ لي عنها، كانت ببساطة أو يا للهول عملاً إجرامياً وحشياً، ببساطة لأنّ الهدف منه انتقام الوحوش من الناس الطبيعيين، الناس الأحرار الطبيعيين، ويا للهول لأنّ تلك الوحوش لم تُجرم ولم تنتقم إلّا لدوافع سافلة، دوافع حقد حيوانية وطائفية، هكذا جرت الأمور، والبداية والبقية تعرفونهما. 

الآن وفي تمّوز 2023 وفي "تركيا الجميلة" أعود فأسمع هذا المُصطلَح "حملة أمنية"!. 

تقوم السلطات التركية بحملة أمنيّة، حملة أمنية على اللاجئين غير الشرعيين في تركيا، حملة أمنيّة على السوريين في تركيا، حملة أمنية عليهم في "بورصا" وأخرى في "قونية" أو في غيرهما، حملات أمنية على المُخالفين للقوانين التركية في كافّة الولايات، حملة أمنية على السوريين الذين يشتغلون بلا إذن عمل، حملة أمنية على السوريين الذين يغادرون مناطق الولايات التي أُعطِيت لهم فيها بطاقات الحماية المؤقّتة "الكيمليك" لأنّهم لم يخضعوا للقانون التركي الذي يشترط عليهم أو يجبرهم بالبقاء في الولايات التي استحصلوا على هذه البطاقات فيها، فلا يحقّ لهم العمل خارجها أبداً ولا السفر منها سوى بالحصول على إذن مبرَّر. 

مضت أكثر من عشر سنوات ولم أسمع بهذا المصطلح "الحملة الأمنية"، لكنّ ما بدا لي الآن أنّ هذا المصطلح يخصّنا نحن حتماً دون غيرنا، لصيق بنا تماماً، الحملة الأمنية لإجلاء السوريين من تركيا. 

قانون الحماية المؤقّتة وهو ما يُدعى في "القانون التركي" رسمياً بقانون الأجانب والحماية الدولية التركي، هو بالضبط والحرف والرقم القانون 6458- 2013 الصادر عن "مجلس الوزراء التركي" والذي تفسّره أو توضّحه أو تساعد على تنفيذه -وهذا مجرى معظم القوانين- لائحة تنفيذية برقم 6883-2014، هذا القانون في المادّة 54 منه المادّة الخاصّة أو المختصّة بتوضيح أسباب "الترحيل" للسوريين وغيرهم من تركيا، والذين لا تنطبق عليهم -وذا حديث آخر- صفة اللاجئين بمنظور وأحكام القانون الدولي أبداً، وكي لا أُسهب كثيراً فإنّ السوريين في "تركيا" ليسوا "لاجئين" بل نازحون من دولة مجاورة يُفترض أنّ هذا القانون قد حماهم.

بالعودة إلى المادّة المشار إليها، فإنّ هذه الأسباب -أسباب الترحيل- كثيرة، لم ولا يمكن ولا يُراد أن تُحصر لا ضمنها ولا من خلالها ولا من خلال تطبيقها أو تشكيلها من تستطيع السلطات التركية ترحيله من أراضيها من السوريين وغيرهم الذين خضعوا لسلطة قانون الحماية المؤقّتة، فهُم الأشخاص المُبعَدون، وهم الأشخاص الذين تجري عليهم أحكام المادة 59 من القانون 5237، هذه المادّة -حدّ علمي- لم يتناولها أحد من المعنيين أو المهتمّين بالشأن القانوني للسوريين في تركيا، وهي تعني وبالضبط: أنّه يتمّ فوراً إبلاغ وزارة الداخلية بخصوص "الأجنبي" المحكوم عليه بالسجن، لتقييمه فيما يتعلّق بإجراءات "الترحيل"، هذا يعني أنّ أيّ أجنبي محكوم عليه بالسجن في تركيا يمكن ترحيله (حتّى مع وقف التنفيذ أو استبدال عقوبة الحبس بالغرامة)، بل وإن صدر حكم بالبراءة أو عدم المسؤولية بعد الاستئناف، إضافةً إلى أصحاب الأنشطة الإرهابية إدارةً أو عضويةً أو "تأييداً" لأيّة منظّمة "هادفة للربح"، (دون أيّ توضيح أو تعريف لهذه الأنشطة كما كان يصرّ حافظ أسد وابنه دائماً مطالبين المجتمع الدولي في كلّ مناسبة بتعريف الإرهاب)، أيضاً الأشخاص الذين يزوّرون وثائق معلومات دخولهم إلى تركيا، والذين يتكسّبون بوسائل غير مشروعة، والذين يهدّدون النظام العامّ أو السلامة العامة أو الصحّة العامة، والذين تجاوزوا مدّة التأشيرة ومن أُلغيت تصاريح إقاماتهم ومن يعملون بلا تصريح عمل ومن خالفوا أحكام الدخول إلى تركيا ومن خالفوا أحكام الخروج منها، ومَن ومَن ومَن.. .

"قانون مطّاطي" بالمعنى الحرفي، والمشكلة أساس المشكلة وجوهرها أنّه لا سلطة لهيئات ومؤسّسات القضاء المكلّفة بتطبيق القوانين وإنفاذ العدالة على تطبيق هذا القانون، بل السلطة كلّ السلطة للجهات التنفيذية، الشرطة وإدارة الهجرة وأيّة جهة أخرى مخوّلة، فالقيام بالأعمال والمعاملات المتعلقة بالحماية المؤقّتة هو من صلاحيات ومهامّ المديرية العامّة لإدارة الهجرة وفق الفقرة 8 من المادّة الرابعة لهذا القانون، ووفق الفقرة الأولى من المادّة 53 منه فإنّ قرار الترحيل يُتّخذ من قبل المحافظات بناءً على تعليمات من المديرية العامة أو بحكم منصبها، وأيّ حديث بعد ذلك عن الحقّ في توكيل المحامين ومراجعة القضاء -وهو قضاء مستعجل وعلى درجة واحدة- يبقى حديثاً ضمن شكليات لا تُطبّق إلّا في حالات نادرة جدّاً، ولم تعد تُطبَّق الآن على الإطلاق. 

إنّ ما يحدث الآن ببساطة هو تطبيق قانون غير قانوني على السوريين الموجودين في تركيا الخاضعين لهذا القانون، أو الموجودين فيها رسمياً بسبب إصدار هذا القانون، قانون يطبّق ليس بعيداً عن سلطة القضاء وإشرافه ورقابته فحسب، بل عن سلطة الإدارة نفسها ووزارة الداخلية أيضاً لأنّ من يستخدمونه اليوم من أجل ترحيل السوريين من المكلّفين بإنفاذه -إن صحّ التعبير- لا يوجد لديهم معايير أو ضوابط واضحة أو آليات محدّدة يعملون من خلالها أو بالأحرى يُعملون من خلالها ما يُعملونه. 

السوريون في تركيا اليوم واقعون تماماً في أعظم مأزق إنساني عرفوه بعد القتل والاعتقال والتشريد والتهجير، فالآن.. قد يكون مصير المرحّل منهم كلّ ذلك معاً، فماذا يعني أن يُجبَر الناس بعد سنوات وسنوات من الكدّ والعمل أملاً في بعض الأمان و"السِّترة" على الرحيل إلى أراضٍ جديدة لا يعرفونها، وأن يعودوا محبوسين فيها بلا عمل ولا مأوى؟.

لا أعرف ما هي الرسالة التي يُراد في تركيا اليوم إيصالها للسوريين من خلال هذه "الحملات الأمنية"، بعدما ولّى زمنها في عهد أسد القذر وشركائه، لكنّ المنطق يقول إنّ آثارها ونتائجها لن تكون محمودةً على الإطلاق، لأنّ خرق مبادئ القانون والعدالة لا يؤدّي أبداً إلى الأمن والاستقرار. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات