منذ لقاء موسكو الثلاثي بين وزراء دفاع تركيا وروسيا وبشار الأسد، بدأ الخوف الحقيقي يتسرب إلى نفوس معظم السوريين في تركيا وفي الشمال السوري، حيث مناطق الجيش الوطني وإدلب، الخوف من أن يكونوا ضحية لهذه المصالحة ويتم تسليمهم لبشار الأسد الذي اعتقل وقتل ونكّل بكل من عارضه وثار على جرائمه وحكمه الجائر.
ورغم مشروعية هذا الخوف الإنساني، غير أنه من الخطأ أن يغطي على التفكير الواعي بعيداً عن العاطفة، فقد تكون الحقيقة معكوسة تماماً والخوف مجرد وهم يغذيه تدفق المعلومات المتناقضة والكثيرة واختلاط المعلومة بالشائعة والدعاية التي يكون خطرها في الحرب كما يعرف الخبراء والمختصون أكبر من تأثير العدو نفسه في أرض الميدان.
فرضية: العكس هو الصحيح
تماشياً مع مبدأ رياضي يمكن وضع فرضية جدلية معكوسة وبرهنة صحتها بعيداً عن العاطفة الجمعية للسوريين (ثورة ومعارضة) التي فرضت فوراً أن ما يجري من تقارب بين الحكومة التركية وبشار الأسد يصب في مصلحة تأهيل الأخير وسيعود وبالاً على السوريين المتحالفين مع تركيا إذا صح التعبير.
تقول الفرضية :"إن المصالحة والتطبيع التي تذهب إليه الحكومة التركية وبشار الأسد بضغط روسي كما يعرف الجميع ستكون فخاً ومصيدة تغرق بشار الأسد في أزمات أكثر بدلاً من إنقاذه، ولن تضر الثورة".
وفي سبيل إثبات هذه الفرضية، لا بدّ من الإجابة على عدة أسئلة رئيسة وهي، ماذا تريد الحكومة التركية من بشار الأسد؟ وهل يستطيع تحقيق ذلك؟ وماذا يمكن أن تقدم تركيا لبشار؟ وأين دور أمريكا وإيران؟ وهل تستطيع تركيا استبدال فصائل وقوى المعارضة ببشار الأسد؟ ولماذا لا يكون التقارب مع بشار الأسد تكتيك وورقة انتخابية يلعب بها الرئيس التركي أردوغان وحكومته وسيرميها بعد تأمين الفوز؟
بشار الأسد العاجز
رسمياً وكما أعلنت تركيا مراراً وتكراراً فإن همها الأكبر حالياً هو طرد حزب العمال الكردستاني الإرهابي وأذرعه قسد ومسد وبعض الأحزاب التي تدور في فلكه من حدودها الجنوبية في سوريا لأن مشروعه الانفصالي هو أكبر خطر يهدد الأمن القومي التركي وهو ما يُجمع عليه الأتراك كلهم موالاة ومعارضة.
يؤكد الأكاديمي التركي المستقل الدكتور مهند حافظ أوغلو أن بشار الأسد ونظامه لا يمكن بأي حال أن يساعد تركيا في قتال قسد وطردها لأنها تحت الجناح الأمريكي، وحتى روسيا لا تستطيع أن تقدم لتركيا أي ضمانات في هذا الشأن، رغم أن هناك تشاورات بين أمريكا وروسيا ولكن الكلمة الفصل هناك تبقى لأمريكا، وتركيا تدرك ذلك جيداً، وإلا لكانت شنت عملية عسكرية منذ أشهر بالتعاون مع فصائل المعارضة التي أبدت كل الجهوزية.
وهنا ينبثق سؤال آخر، ألا تدرك روسيا أن الكلمة الفصل لأمريكا؟ والإجابة بلى، ولكن من وجهة نظر أوغلو فإن بوتين يريد أن يحقق نصراً دبلوماسياً في سوريا أمام شعبه خاصة في ظل الغرق في المستنقع الأوكراني وقبله السوري دون تحقيق أي مكسب سياسي حقيقي، رغم بعض الانتصارات العسكرية.
كلام أوغلو ووجهة نظره لا تقتصر عليه كباحث مستقل أو على من يبررون لحكومة أردوغان هذا التوجه، بل توافقه شخصيات تركية معارضة أيضا، منها الدكتور خالد خوجا أحد مؤسسي حزب المستتقبل التركي المعارض بقيادة رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو.
وقال في اتصال هاتفي مع أورينت نت إن بشار الأسد في وزن أقل من يحقق طموح الرئيس أردوغان ويزيح تهديد حزب العمال الكردستاني.
ورغم أنّ خوجا يخالف وجهة النظر القائلة بأن التقارب مع الأسد هي مناورة وتكتيك من قبل الحكومة وإنما إستراتيجية، لكنه يؤيد جوهر ما ذهبت إليه الفرضية وهي أن بوتين المأزوم يريد أن يحقق قصة نجاح في سوريا دون تحقيق انتقال سياسي حقيقي.
هل يتجرأ بوتين على ذلك؟ يجيب الخوجا: في الوقت الراهن جوابي: لا.
ومنذ أشهر يحاول الرئيس التركي شنّ عملية عسكرية ضد قسد بالمشاركة مع "الجيش الوطني"، أشار إليها مراراً في تصريحاته، غير أنه اصصدم ولا يزال بجدار أمريكي صلب.
أما عن طلب تركيا الآخر الذي ينقسم إلى شقين، الأول يتعلق بعودة اللاجئين الآمنة والطوعية، إلى بلادهم والثاني هو تحقيق مصالحة بين بشار الأسد والفصائل المعارضة التي تعد على الأرض بحوالي 100 ألف مقاتل، فإنه شبه مستحيل لأن مقاتلي الثورة والمعارضة ليسوا في جيش نظامي، فحتى وإن وافق القادة المعروفين بمواقفهم المتخاذلة وبفسادهم، فإنهم لن يستطيعوا فرض ذلك، إلا على جزء يسير من المنتفعين.
وليس هذا فحسب فهناك 3 ملايين سوري في (الشمال المحرر) عبّروا بشكل واضح عن رفضهم للمصالحة مع الأسد عبر مظاهرات غضب متواصلة، وتحت شعار "لن نصالح".
وحول هذه النقطة علق آخر سفير لتركيا بدمشق وعضو حزب العدالة والتنمية الحاكم عمر أونهون بالقول إن أهم أولويات أزمة تركيا اليوم هو العودة الآمنة للاجئين إلى سوريا، وهذا ما يشكل المعضلة الأبرز في مواجهة التطبيع مع الأسد.. لا توجد ظروف مواتية بعد، والأسد لا يعطي أي ضمانات أمنية حقيقية للعائدين،.. هناك 70 ألف مسلح في الشمال وكل هؤلاء سيواجهون مستقبلاً غير مضمون.
وفي اليوم نفسه، خرج وزير الدفاع التركي خلوصي أكار ليؤكد ويتعهد إذا صح التعبير أنه "لا يمكن أن نفعل أي شيء ضد إخواننا السوريين الذين يعيشون في تركيا وسوريا و لن نضعهم في مأزق".
ماذا يريد بشار الأسد؟
العديد من المواقع الصحفية سرّبت مطالب بشار الأسد من الرئيس التركي أو من حكومته، ولكن لن يتم الاعتماد إلا على ما هو رسمي حتى لا نقع بفخ الإشاعات والدعاية، التي لا يجني منها السوريون إلا الوهم سواء إيجاباً أو سلباً.
رسمياً أوصل بشار الأسد طلباته إلى تركيا عبر عضوين مما يسمى "مجلس الشعب السوري" وهما نبيل طعمة وبطرس مرجانه، فقال الأول "إن كان هذا الاجتماع (بين أردوغان والأسد) سيؤدي إلى تخفيف العقوبات الجائرة ضد سوريا ورفع جزء من الحصار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي عن البلاد، في هذا الإطار قد يكون الاجتماع قبل الانتخابات أو بعدها".
أما الثاني فقال: "يمكن أن يكون هناك حوار مع تركيا، لكن قبل كل شيء، يجب على تركيا أن تعترف بأنها غزت الأراضي السورية وقامت بتمويل وتدريب العصابات الإرهابية وأن تظهر استعدادها للانسحاب من الأراضي السورية".
ويوافق الباحث حافظ أوغلو على أنه من البديهي أن تركيا لا تستطيع تحقيق الشرط الأول للأسد فالعقوبات أمريكية غربية في معظمها ( وأهمها قانون قيصر والقانون الذي وقعته أمريكا نهاية العام 2022 المسمى كبتاغون الأسد)، وهذا لن يتم إلا إذا رضح بشار الأسد للشروط الدولية المعروفة بتطبيق القرار 2254، وحل سياسي يتوافق عليه السوريون.
أما شروط مرجانه فلا تستحق حتى التعليق عليها، ويمكن لأي قارئ أن يعتبرها بدون قيمة أو فقط لرفع سقف تفاوضي.
أمريكا وإيران بيضة القبان
يختصر حافظ أوغلو الموقف الإيراني بعبارة مجازية لطيفة، وهي أن بشار الأسد ينام على يد إيران أكثر من الروس، معتبراً أي تقارب بين "دمشق وأنقرة ينعكس سلباً على المصالح الإيرانية في سوريا"، حسب تعبيره.
ورغم أن إيران لم ترفض صراحة تقارب بشار الأسد مع تركيا غير أنها لم تؤيد أيضاً بشكل واضح واكتفت بتصريح ضبابي جاء كرد من قبل المتحدث باسم وزارة الخارجية على سؤال ضمن مؤتمر صحفي ليس خاص بسوريا "إيران تعتبر حل القضية السورية هو حل سياسي وروسيا وتركيا والنظام يعلمون دور إيران الحاسم في محاربة الإرهاب في سوريا"، ومعروف أن الإرهاب بالنسبة لإيران والأسد هو كل سوري عارض أو ثار على بشار الأسد.
أما الموقف الأمريكي فهو أوضح، ففي أكثر من مناسبة عبروا عن عدم رضاهم عن تأهيل الأسد أو التطبيع معه من أي دولة، حتى ينفذ شروط الحل السياسي الدولية، ثم جاء أمس وزير خارجية تركيا ليعترف بنفسه أن أمريكا غير راضية عن التطبيع مع الأسد، فقال" أمريكا منزعجة من لقاءاتنا مع الطرف السوري لكنها لا تنتقدنا"، وبعدها جددت أمريكا رفضها للتطبيع مع الأسد من قبل تركيا بشكل مباشر.
تقارب مجبرٌ لا بطل
طالما أن تركيا لا تستطيع أن تقدم شيء لبشار الأسد، والأخير لا يمكن أن يقدم لها شيء فلماذا هذا التقارب إذا؟ ما هي المصلحة؟
سواء كانت روسيا ترغب بالتقارب بين بشار الأسد والحكومة التركية والرئيس أردوغان، للأسباب التي ذكرتها المقالة أو لغير ذلك، المؤكد أن روسيا هي من دفعت نحو هذا الأمر بدءاً من تصريح مبعوث بوتين إلى سوريا، ميخائيل بوغدانوف في منتصف العام المنصرم مرورا بإعلانها عن اللقاءات الاستخباراتية بين البلدين برعايتها وصولاً إلى اللقاء الثلاثي الأربعاء الماضي.
وهنا يؤكد أكثر من باحث وسياسي تركي بعضهم طلب عدم ذكر اسمه أن الرغبة الروسية هذه تلاقت مع ما تشتهيه رياح الرئيس التركي، رغم إداركه بعدم جدواه لأنه استطاع من خلاله سحب ورقة اللاجئين وورقة النظام السوري من المعارضة التركية، قبيل مخاض الانتخابات الصعب.
وهنا يعلق الباحث حافظ أوغلو على أن المسألة إذا لا تعدو مجرد مناورة من الرئيس التركي قبيل الانتخابات لا أكثر.
أما خوجا فألمح إلى أن هناك حالة وحيدة يمكن أن يستفيد منها بشار الأسد من المصالحة مع حكومة أردوغان، وذلك عبر طرحه لتساؤل لا يبدو أن الإجابة عليه قد نضجت في الأفق، وهو هل تقايض أمريكا بوتين بالتخلي عن حزب العمال الكردستاني بطلب تنازلات في ملف حساس مثل وكرانيا ؟
لكنه في الوقت نفسه يؤكد أن قصة النجاح التي يسعى بوتين لتحقيقها في أوكرانيا أهم من تلك التي يسعى بها في سوريا وملف أوكرانيا أثمن بالنسبه له من أن يقايض به "الكردستاني" لمصلحة الرئيس أردوغان.
المعارضة خسارة غير مؤكدة
وللإنصاف وحتى وإن كانت الأدلة السابقة كافية لإثبات صحة الفرضية التي بنيت عليها، لكن تبقى السياسة غير الرياضيات واحتمال وجود خسارة للمعارضة والثورة من هذا التقارب قائمة وإن كانت بنسبة ضئيلة؟
ورغم أن توقعات الخسارة تذهب للناحية الإعلامية من قبل باحثين، كما حدث مع المعارضة المصرية غير أن البعض الآخر رفض المقارنة معها معتبراً أنه لا ينطبق على الحالة السورية لأن تركيا جزء من المنظومة الدولية التي تؤكد على دعم المعارضة السورية إعلامياً وعسكرياً ومدنياً، كما إن تركيا لا يمكن أن تسمح للمعارضة أن تخرج من عباءتها، رغم كل أخطائها والفساد والترهل الذي يعتري هياكلها، وإنما لأن المجتمع الدولي يدعمها ويعترف بها، ولأنها دون شك تحت "اليد" التركية وأنقرة تثق بولائها إذا صح التعبير أكثر من الأسد، وهذا أكده أكثر من باحث تحاورنا معه، كما أكدته تصريحات تركيا المتضاربة والحرص على طمأنة المعارضة في كل خطابتها بعد الإعلان عن قرب اللقاء بين وزير خارجية تركيا والأسد.
وبالتالي يبقى الحل مؤجلاً إلى حين التوافقات بين واشنطن وأنقرة والغرب عموماً، المنشغل اليوم في دعم أوكرانيا ضد روسيا ولا يريدون لها أن تربح هناك بأي شكل من الأشكال لا إعلامياً ولا سياسياً كما هو واضح من مجريات الأحداث وإطالة أمد الحرب.
التعليقات (4)