العاطفة الثورية والواقع

العاطفة الثورية والواقع

هل للعواطف مكان في الثورة السورية والفلسطينية وما شابه ذلك؟ هذا السؤال جوابه معروف بنعم.

فأغلب حقول الممارسة البشرية لا تخلو من العواطف، حتى في الرياضيات هناك من يحبها وهناك من يكرهها. ولكن أن تحب الرياضيات أو تكرهها، فالكره والحب لا يتدخلان في حل معادلة رياضية، فلا مكان لأحكام العاطفة في العلوم الطبيعية والحيوية والرياضية.

لكن الممارسات البشرية في علاقاتها بالماضي والحاضر والمستقبل، في علاقاتها بالثورة والثورة المضادة، في علاقاتها بالحكم على الأشياء المرتبطة بالذوق، مليئة بالعواطف. والعاطفة بوصفها شعوراً انفعالياً عصبياً ليست واحدة عند جميع البشر.

فقتل جماعة مسلحة لآخرين هم بحكم الأعداء سيولّد عاطفة الفرح لدى القتَلة وعاطفة حزن لدى أهل المقتولين. وهكذا.

ولعمري إن الموقف العاطفي لا يرتد إلى المصلحة فقط وإنما إلى موقف من الحياة أيضاً. بل وإن الموقف من الحياة قد ينتصر على المصلحة.

فمن يمتلك العواطف النبيلة وهو يرى أشلاء أطفال مكدّسة بفعل أدوات القتل الهمجية ويسمع صرخات اﻷمهات الثكالى سيكون ودون أي تردد متعاطفاً مع أهل الأطفال ودون أي ارتباط بالمصلحة. والعواطف النبيلة لا تتجزأ. إذ لا يمكن أن تكون في اﻵن نفسه ضد قتل اﻷطفال هنا ومع قتل الاطفال هناك.

وبالمقابل لا يمكن لكائن بشري قادر على الحزن والفرح والحب أن يكون إلى جانب النظام الدكتاتوري القاتل. ولأن العلاقة وطيدة بين العواطف واﻷخلاق فإنك واجد أن من لا عواطف نبيلة له منحطّ أخلاقياً ومن هو منحط أخلاقياً منحطّ عاطفياً.

ولهذا ليس مصادفة أن ترى أن جميع الدكتاتوريين منحطّين أخلاقياً وعاطفياً. فمن لا يهزّه دمع اﻷم الثكلى حتى ولو كانت أم قاتل، شخص بلا قلب وبلا ضمير أخلاقي. فالثائر قلب يفكر وعقل يشعر فيما المجرم بلا قلب وبلا عقل.

لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة هل باستطاعتنا أن نُصدِرَ أحكامنا ونرسم مستقبلنا تأسيساً على العاطفة؟

الجواب هو: إن أحكامنا العاطفية عن الأشياء والسلوك والواقع لا تُمدّنا بوعي موضوعي لما سبق ذكره.

والحكم الموضوعي هو ذاك الذي يصدر عن عقل واقعي دون تدخل من عاطفة كره أو حب، رغم أن الموقف الموضوعي لا ينفي علاقة الكره والحب في الأصل.

فالكره للأنظمة المستبدة لا يؤسس وحده لممارسة ناجعة،لا بد من موقف عقلي يكشف عن نقاط ضعف الأنظمة وضعف الجهات الكارهة لها، وعن الممكنات القابلة للتحقق، وعن طبيعة المستقبل المنشود وعن علاقة الإرادة بالواقع، وعن جملة العناصر المتعددة للواقع، خارجية كانت أم داخلية.

فالعاطفة بارتباطها بالموقف الأخلاقي أمر في غاية الأهمية، لكنها لا تسطيع أن تتعامل مع الواقع الموضوعي.

فجميع الفلسطينيين من حيث المبدأ يكرهون إسرائيل، وجميع اليهود الصهاينة يكرهون الفلسطينيين.

كره الفلسطيني مؤسَّسٌ على كره سالبِ حقِّه، وكره الإسرائيلي للفلسطيني مؤسّس على كرهِ من يطالب بحقه ومن يذكّره دائماً بأنه غريب مُعتدٍ.

ولكن الانتقال من حالة الكره وحبّ فلسطين إلى ممارسة الكفاح من أجل استعادة الحق يتطلب عقلاً إستراتيجياً موضوعياً، واستخداماً عقلياً للعواطف.

فأن تحب أن تكون السلطة بصورتها الكاريتورية في غزة والضفة ويصبح هذا الحب محركاً للسلوك، فهذا يلغي أي تفكير عقلي واقعي منطقي بمستقبل الكفاح الفلسطيني الناجع.

إن العاطفة تُمدّ الإرادة بقوة روحية لتحقيق مطلب هو ثمرة التفكير العقلي الواقعي المجرد من الهوى.

وهكذا.

 

التعليقات (2)

    مقال جميل

    ·منذ سنة 6 أشهر
    العاطفة و العقل... و الثورة... لكن عندي سؤال هل الثورة و الثوران و الثور كدلالة... هي عاطفية ام عقلية...؟ مقارنة مع اللغات الأخرى Revolution.... كيف نقارن مع جذرها في الفرنسية مثلا... ؟ كيف تطورت دلالاتها و أصبحت اعادة re .... تطوير..... volution... هي ثور ... و ثورة... و ثوران.. لا عقل فيها ...... تحياتي د. برقاوي... Hani Al

    مقال جميل

    ·منذ سنة 6 أشهر
    وكذلك سؤال المليون... كيف لمثل... عبد الباري عطوان... إن يكون ثوريا... فلسطيني حر... و لا يتألم للهلوكست السوري كيف تستوي الأخلاق و العاطفة... و $$$$ ايران و مافيا بوط ين و نظام التطبيع الأسدي...مع كونه كاتب واعي مفكر و صاحب قلم و صحيفة يعمل على توعية الناس؟؟ طبعا هناك الكثير من أمثاله... سؤال لم أجد جواب عنه.... المحبكجية و .... .... Hani Al
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات