ألف أبو حامد الغزالي كتابه إلجام العوام عن علم الكلام للدفاع عن السلف ضد علماء الكلام، وهو دعوة لأن يكف العوام عن الاطّلاع على خطابات علماء الكلام بما هو تفكير عقلي بالترسيمات الدينية، فعلم الكلام العربي الإسلامي هو على غرار علم اللاهوت اليهودي والمسيحي.
وقد اتفق الفلاسفة المسلمون بعامة على ضرورة إلجام العوام عن علم الكلام وعلى عدم إطلاع الجمهور على الفلسفة. وذهب ابن رشد إلى القول بأن الخطاب الفلسفي -البرهاني يجب أن يوجه إلى خاصة الخاصة، أما العامة -الجمهور فلهم الخطاب الخطبي.
وإني لأتساءل اليوم: أما زال من المستحسن إلجام العوام عن العلوم التي تتعارض مع وعيهم وما يعتقدون به؟
إنه ليس مجرد سؤال ناتج عن خيبة أمل ممن يظن أنهم خاصة أو خاصة الخاصة في علاقتهم بالفلسفة والعلم فحسب، وإنما بحث في دلالة هذا القول: إلجام العوام عن علم الكلام.
لكن اليوم لا يمكن إلجام العوام عن الاطّلاع على الفلسفة وعلى ما يعارض وعيهم المتوارث حول الماضي، فوسائل التواصل أخرجتهم إلى حياة الاطّلاع دون أن يصيب أكثرهم حب معرفة الجديد.
لنتوقف عند كلمتين وردتا في عنوان الغزالي: إلجام العوام. ما معنى إلجام وما معنى العوام؟
يقول المعجم العربي: الفعل ألجم يلجم إلجاماً، ومُلجِم ومُلجَم. وألجم الدابة ونحوها ألبسها اللجام.
اللجام آلة من الحديد متصلة من طرفيها بالرسن توضع في فم الفرس لإلجام الفرس وقيادتها، وألجم فلاناً عن حاجته: كفه. ويقال: أيضاً تكلم فألجمته ولجمه الماء بلغ فاه.
فاستخدام كلمة إلجام في سياق منع العوام من الاطّلاع على علم الكلام، من قبل الغزالي، تدل على بقاء الناس دون اطّلاع حتى تسهل قيادتهم، تماماً كما وضع اللجام في فم الفرس.
أما العوام: فهم عامة الناس، في مقابل الخاصة وخاصة الخاصة. فهذا يعني من حق الخاصة وخاصة الخاصة أن تتطلع على علم الكلام المحرومة العامة من حق الاطّلاع عليه.
لكن العوام الذين صادر الغزالي حقهم في الاطّلاع على علم الكلام هم على أنواع مختلفة، فالعوام بعامة هم الأكثرية التي تتمتع بالقيم وحب الحياة واحترام التقاليد. ولكن هناك أصناف من العوام والخاصة ينتمون إلى الرعاع والأسافل والهلكس، وهؤلاء الذين سميتهم الوسخ التاريخي.
وفي التأويل المعاصر للقول "إلجام العوام عن علم الكلام" نقول: إن العوام الرعاع ليسوا أهلاً للتفكير بما يخالف ما حُشي عقلهم به، فضلاً عن أن ردود فعلهم على ما يعارض مألوفهم من القول قد يصل حد العنف، العنف اللغوي والعنف المادي. لا سيما وأن وسائل التواصل المتعددة كالفيسبوك وتويتر والمواقع الأخرى قد وفرت للعوام العفوش والرعاع والدهماء والأسافل وسائل لإبراز انحطاطهم الأخلاقي، وبؤسهم المعرفي، وهمجيتهم البدائية. وهؤلاء موجودون في كل العصور التي شهدت وتشهد عدم انتصار ثقافة الحرية والاعتراف. فإذا كان الغزالي قد دعا لإلجام العوام عن علم الكلام الذي هو علم التوحيد والتفكير بصفات الإله ومرتكب الكبيرة والعقاب.. إلخ، فهذا يعني بأنه يجب إلجام العوام عن الفلسفة والمعرفة وكل ما يمت إلى العقل بصلة.
ومع ذلك، ورغم ذلك نحن لا ندعو، كما دعا الغزالي، إلى إلجام العوام عن العلم سواء كان علم الكلام أم الفلسفة أم علم الطبيعة أم علم التاريخ. ولا إلى منع العوام عن الاطلاع على خطاب أهل البرهان كما عند ابن رشد.
ولسنا مع القائلين: خاطبوا الناس على قدر عقولهم، لأنا إن فعلنا أبقيناهم في عالم الجهل والهراء واليقين بما يختزنون من أوهام.
التعليقات (7)