مشواري مع الثورة والأدب-1: من إغراءات مجلس الشعب إلى مخيم اللاجئين!

مشواري مع الثورة والأدب-1: من إغراءات مجلس الشعب إلى مخيم اللاجئين!

في سلسلة مقالات خاصة، تسرد الكاتبة والأديبة السورية ابتسام شاكوش كل إثنين، قصتها مع الثورة والكتابة والأدب.. ووقائع الخروج من منطقة (الحفة) بريف اللاذقية عام 2012  سيراً على الأقدام  نحو تركيا، هرباً من قصف طائرات الأسد، قبل أن تتابع تشردها المثير بين المخيمات. (أورينت نت)

أول الهجرة

قالوا.. وأَكثروا  من القول: لماذا تسكنين مخيم اللاجئين؟ لا يليق بكاتبة لها كل هذه الشهرة وتحمل العديد من الجوائز الأدبية أن تسكن خيمة، مكانك ليس هنا.

 

مكاني أنا من يقرّره ومن يختاره، مكانتي الأدبية لن تفصلني عن واقع هذا الشعب الذي  ثار على خمسين سنة من القهر والقمع ومحاولات الإذلال. ثورة ليست هي الأولى منذ استيلاء حزب البعث على السلطة في سورية، بل هي الثالثة.

قامت معركة الحفة الكبرى في حزيران 2012  وجاء الجيش بمعداته الثقيلة وطائراته، بعدما نُصبت منصات المدفعية في القرى العلوية المحيطة بالحفة، كان لا بد من الرحيل.

 

جيء بسيارات شحن كبيرة، حُشر في صناديقها الرجال والنساء والأطفال، مع قليل من المتاع لا يتعدى حقائب صغيرة في أيدي النساء المرضعات تحوي القليل من الحليب المجفف و الحفاضات، كنت أعلم أني لن أعود، فالضغوط التي مارسوها عليّ والإغراءات.. يريدون استخدامي بوقاً لجرائمهم، أو عصا يضربون بها أهلي، وشعبي، بل يضربون قناعاتي ومبادئي،  لم يبق بعدها سوى الاعتقال، لن أسلّم نفسي للاعتقال، لذلك جهّزتُ لرحلتي حقيبة يدي ووضعت فيها جواز سفري، وفلاشة عليها مؤلفاتي، وحقيبة أخرى فيها اللابتوب، كانوا يظنون كما ظن الفلسطينيون من قبل أنها أيام أو ساعات وتهدأ المعركة ويعودون إلى بيوتهم.

 

أثناء الثورة. والطائرات تحوم فوق منطقتنا كغربان الشؤم، جاءني اتصال من جريدة (تشرين) يريدون أن يعملوا ملفاً عني باعتباري "أهم كاتبة سورية" على حد تعبيرهم. هكذا كشفت لهم الطائرات والمدافع، قلت للمتصل: الآن اكتشفتم هذا؟؟ أسكت هذه الطائرات والمدافع التي تقصفنا لأعرف كيف أرد عليك. كان قبلها قد جاء رجل لا أعرفه. استدعاني إلى مكتب مدير المنطقة يعرض عليَّ أن أكون في مجلس الشعب!  قال: "فور توقيعك على الطلب سنعطيك منزلاً في دمشق وسيارة". طبعاً رفضتُ أنا لست للبيع، لن أبيع نفسي ومبادئي بهذه السخافات التي يعرضونها.

قتلوهم على مشارف أول قرية!

المعركة لم تهدأ، ولن تهدأ حتى زوال ما ثرنا من أجل إزالته.  سيارات الشحن تجاوزت بحمولتها القرى العلوية في الطريق إلى جبل الأكراد. لم نرَ شخصاً واحداً خارج بيته، كان طريقنا فارغاً آمناً، ولكن حين قرر بعض الرجال العودة، قتلوهم على مشارف أول قرية.

 

في جبل الأكراد توزع النازحون وهم من أبناء الحفة والقرى السنّية المحيطة بها، توزّعوا على بيوت جرى تهجير أهلها منها وتركوها  كما هي، أكل النازحون ما خزنه أصحاب البيوت من الطعام، وألبسوا الأطفال مما وجدوا من الثياب، نام الجميع على فرش ووسائد أصحاب تلك البيوت، لكننا لم ننعم بالأمان، لاحقتنا الطائرات المروحية برشاشاتها وصواريخها، فاضطرّتنا للتنقل من قرية إلى قرية، نخرج كما دخلنا بأيدينا الفارغة وبما نرتديه من الملابس، حتى انتهى بنا المطاف إلى قرية كفرتة.

 

في تلك القرية اجتمع معظم النازحين في مضافة الحاج إبراهيم وهي مضافة واسعة لم يُغلَق بابها منذ مئة سنة.. تشهد على تاريخها اللوحة الحجرية التي تحمل تاريخ بنائها بالحروف النافرة. انشغلت النساء بالغسيل وإعداد الطعام لهذا العدد الهائل من الناس وكانت قاعة الرجال تغص بالرجال ذوي الهمة التي تطاول السحاب، كانت الثورة في أوجها، ولحقت بنا الطائرات برشاشاتها، وتلتها قذائف المدفعية، بأصوات انفجارات تصدع الوديان، قرر أهل البيت الرحيل إلى تركيا، وانقسمت العائلات بين مؤيد  للهجرة، وراغب بالعودة إلى اللاذقية، وقتها اتخذت قراري بالهجرة، ومشيت مع من مشى، عائلات، عجائز ونساء وأطفال لا أعرف منهم أحداً.

 

بدأنا المسير بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم، الطريق إسفلتي، والشمس شديدة الحرارة، الأطفال الكبار يمسكون بأيدي الأمهات والجدات، والصغار محمولون على الأكتاف، بعد أقل من ساعة رأيت على جانب الطريق صناديق من الكرتون مغلقة  بإحكام، سألت أحد المرافقين للموكب عنها، فأجاب: بعد قليل ستعرفين... بعد مسافة أخرى والشمس لم تغرب بعد، رأيت حقائب رياضية، ممتلئة ومغلقة، سألتُه فأشار بالصمت، لم يطل ذلك الصمت، تعب الأطفال من المشي فاستسلموا، ما اضطر الآباء للتخلي عن حقائب الزاد وعبوات ماء الشرب، ليحملوا الأطفال، بعد مسافة قليلة أخرى تعب الأطفال الأكبر، فاضطُر الكبار للتخلي عن مزيد من حمولتهم، لحمل الأطفال، دخلنا الغابة وقد غابت الشمس وحلّ الظلام. أصوات الطائرات والقذائف ما زالت تصل إلى أسماعنا قوية هادرة، وامتزج خوف القصف مع الرعب من وحشة الغابة ومفاجآتها وأكملنا المسير.

 

العطش أبكى الأطفال

التعب أنهك الجميع. صرنا نرجو من مرافقنا  دقيقة راحة، وما أن يشير بالراحة حتى ترى الجميع إما جالساً أو مستلقياً على أرض الغابة، على التراب، دقائق قليلة ونكمل المسير. العطش استبد بالأطفال فارتفعت أصواتهم بالبكاء، وهنا مشهد لا أنساه أبداً، أشار المرافق بالجلوس للراحة،  وكنا قد مشينا دقائق قليلة بعد الراحة، جلسنا، الأطفال يبكون، والمرافق يضحك مع زميل له بقهقهة  فظة غليظة بلا معنى، طالت استراحتنا،  بعد ذلك أشار بالقيام، قام الجميع، بعد خطوات ليست بالكثيرة، وجدنا جدول ماء رفيعاً، ماؤه عكر موحل.

 

وصلنا أطراف الغابة بعد شروق الشمس بمقدار ساعة،  وجيء لنا بسيارات نقلتنا إلى مدينة يالاداغي، توزّع الجميع بين بيوت مستأجرة، وبين  خيام أقيمت داخل بناء كان مخصصاً لتخزين محصول التبغ.

 

أنا غريبة بينهم، ووحيدة ليس معي أحد من أهلي، لن أكون عبئاً على أحد وقد اكتظّت البيوت المستأجرة بساكنيها والضيوف، انشغلوا بتدبير أمور معيشتهم، وخرجت من بيتي وبلدي ليس من أجل تدبر العيش، بل لأعمل لثورة آمنت بها قبل بدايتها، لذلك انفصلت عنهم وقصدت المخيم  لألتقي مع من سبقونا في النزوح، لعلهم يساعدونني في إيجاد مسكن، أنطلق منه إلى عمل مثمر، علمت منهم أن الخيمة لا تعطى لامرأة  وحيدة، بل لمجموعة نساء، تركت البلدة الصغيرة واتجهت إلى أنطاكيا.

 

في أنطاكيا نزلت في فندق متواضع. كنت أحمل معي مرتب شهرين، أغادره منذ الصباح لأذهب إلى المستشفى الوطني، أبحث عن جرحى (الحفة) أتفقّدهم وألتقي بشباب الثورة، أبحث عن بيت أسكنه، وأعود إلى الفندق في المساء. 

 

كنت خلال تلك المدة أبحث عن سكن، وهنا ظهر تجار الأزمات و الشطّار منتهزو الفرص. كان هنالك رجل سوري لا أعرف عنه شيئاً، وكل الذين التقيتهم لا يعرفون له اسماً، ينادونه حسب طلبه ( جدو) يشتغل في استئجار البيوت للعائلات النازحة، طلبت منه ايجاد غرفة لي، ضمن بيت تسكنه أسرة نازحة، تطوعت بدفع أجرة البيت كاملة، بشرط أن أكون مستقلة بغرفتي، وافق (جدو) ووضعني مع أرملة وابنتيها، بعد يومين قال اخرجي، المرأة لا تريدك معها، نقلني إلى بيت آخر، ثم آخر، حتى التقيت مع مريم، وهي امرأة تركية فاضلة تعمل في دائرة الأوقاف، استضافتني في منزلها، رحّب بي أهلها، وكانت أختها أمينة ترافقني كل يوم إلى المستشفى، وإلى السوق لشراء الملابس للجرحى، مكثت عندهم  حتى سفري إلى مصر.

 

 

في الحلقة الثانية الاثنين القادم |  مفاجآت رحلتي إلى مصر

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات