حين كان للسوريين صحافة ساخرة تفضح الفاسدين وتقلق منام المستبدين

حين كان للسوريين صحافة ساخرة تفضح الفاسدين وتقلق منام المستبدين
كانت صحف "ظهرك بالك" و"الراوي" و"أعطِه جَمَلَهُ" أوّل عهد سوريا بالصحافة الساخرة، وصدرت بعدها بعض المجلّات التي اهتمّت بالكتابة الساخرة والكاريكاتير الهزلي، مثل "النفّاخة" و"اسمع وسطّح"، و"السعدان" والثعبان" و"جُحا" و"النديم" و"الطبل" و"الحمارة" و"العفريت" و"الحوت" و"الخازوق" و"حطّ بالخرج"، يا لها من أسماء!. 

أغلب هذه الصُحف صدرت قبل 1920 ولم تصمد طويلاً، ولم يكن بالإمكان في كثير من الأحيان القول إنّها كانت صحفاً ساخرة بالفعل، فلقد كان المُحتوى متقلّباً أحياناً، منفلتاً غير منضبط أحياناً، وبعيداً في كثير من الأحيان عن روح الفُكاهة والتهكّم الذي ينبغي أن تلامسه باقتدار الصحيفة أو المادّة المكتوبة أيّاً كان نوعها، حين يُعلنُ صاحبها أو كاتبها عنها بأنّها صحيفة أو مادّة أدبية ساخرة، فالسخرية فنّ وخفّة الظلّ موهبة!. 

حبيب كحالة و(المضحك المبكي)

يُعتبر"حبيب كحّالة (1898-1965) الصحفي السوري الدمشقي المسيحي أوّل من أسّس للصحافة الساخرة والموجّهة في سوريا وربّما في الوطن العربي، فلقد كان صاحب ورئيس تحرير مجلّة "المُضحك المُبكي" التي ظلّت تصدر في سوريا طوال سبعة وثلاثين عاماً، منذ 1929 وحتّى 1966، فعاصرت الانتداب الفرنسي ثمّ فترة الاستقلال وانقلابات الزعيم والحنّاوي والشيشكلي والوحدة مع مصر، حتّى انقلاب العسكر البعثيين وسيطرتهم على الحكم في سوريا.  

عرّفت المجلّة عن سياستها عموماً من خلال توضيح كَتَبه مؤسّسها "حبيب كحّالة" في العدد الأوّل منها قال فيه: أمّا خطّتنا فأن نُعاهد القرّاء بصراحة المجلّة وصدقها ولو أغضب ذلك البعض، ولن نجعل موقفنا كموقف الأحنف (يقصد الأحنف بن قيس) الذي سأله معاوية بن أبي سفيان عندما وجده ساكتاً عن مدح ابنه يزيد: مالك ساكت يا أبا بحر؟، فقال: إنّي أخاف الله تعالى إن كذبت، وأخافك إن صدقت!، ولكنّنا سنسعى إلى أن نخاف الله في صراحتنا، وأمّا عبيد الله فإذا غضبوا ونحن نقول الحقيقة.. فليشربوا البحر!. 

توقّفت المجلّة سنة 1956 بسبب قبضة "عبد الحميد السرّاج الأمنية، وظلّت كذلك طوال سنوات الوحدة مع مصر، حتّى عادت سنة 1962، وكتب حبيب كحّالة في افتتاحية العدد الأوّل: تعود هذه المجلّة إلى الصدور بعد غياب طويل لا أتّهم به أحداً ولا أُرجعه لأحد، وإنّما قصدته بملء إرادتي ومحض مشيئتي لأنّني لم أستطع أن أكتب ما أريد ولا أقبل أن أُحمل على كتابة ما لا أريد، فكسرت القلم واعتزلت، لأنّ العبد الحقيقي كما يقول "اوسكار وايلد" هو الذي لا يستطيع أن يعبّر عن رأيه بحرّية!.

كان اسم جريدة "المضحك المُبكي" اسماً على مُسمّى بالفعل، وكانت السخرية التي تتناول الأخبار أو تعبّر عن الأفكار جريئةً لاذعةً وموجّهة، حتّى شكّلت لدى السوريين تُراثاً صحافياً ثرّاً غنياً، وكان أهمّ ما أهّلها كي تستقطب الناس أنّ السخرية لم تكن هدفاً بل وسيلة، وأنّ استعمال هذه الوسيلة كان استعمالاً فنّياً بعيداً عن الابتذال والسقوط، ولنا أن ننظر في بعض الأمثلة: 

"مُسابقة": تُعلن مجلّة المُضحك المُبكي أنّها تقدّم جائزة ثلاثة آلاف ليرة ذهبية مودعة في البنك لمن يُثبت أنّه أرذل إنسان في سوريا، والبراهين تقدّم إلى الإدارة، ويجب ألّا يزيد الكتاب عن أربعة أسطر، وستنظر في المسابقة لجنة مؤلّفة من أكابر أرذال البلدة. (يعني الرذيل ما بيعرفو غير الأرذل منو!). 

قالوا لمحمّد علي العابد: صبحي بركات عم يحتجّ انّو خرقتوا الدستور، قال: حاج نضحك على بعضنا، عمرك سمعت دستور يمشي مع الانتداب؟. 

لنا صديق غاب عن دمشق منذ أكثر من عشر سنوات، ولقد عاد إليها مؤخّراً، ومن قصّة لقصّة وحكاية إلى حكاية.. والحديث يجرّ بعضه بالطبع قال: بتعرفوا يا أخي انتوا بالشام ارتقيتوا كتير!!. فقلت له: ليش شو شفت من ترقّينا؟، قال: وقت كنت بالشام كنت أشوف عدّة حمير مربوطين خارج السرايا، حمار لجلال بيك زهدي الله يرحمو، كان وزيراً ويأتي على حمار، وحمار للسيّد الكيلاني الله يرحمو، كان نائباً ويأتي على حمار، وهناك عدّة موظّفين كانوا يأتون على حمير فيربطونها برّات السرايا ويدخلون إلى مراكز وظائفهم، وأمّا اليوم فماني شايف على باب السرايا غير الاتومبيلات، ماني شايف ولا حمار!. 

كان بيننا واحد ابن حرام يسمع هذا الحديث فضحك وقال: يا أخي.. إذا كانت الحمير مربوطة برّات السرايا ما بيكون دليل تأخّر وما بتأثّر علينا بشي، لكنّ الخوف كلّ الخوف أن تكون الحمير مربوطة جوّا..!!.  

دعم كحّالة جريدة حزب البعث العربي الاشتراكي في زمن الانفصال، فردّ له البعثيون الجميل بعدم إغلاق جريدته بعد الانقلاب على الوحدة، لكن مع إجراءات رقابة صارمة أدّت إلى حجب أعدادها مِراراً، حتّى تمّ إغلاقها نهائياً سنة 1966 بعد ستّة أشهر من وفاته، وبأمر من وزير الإعلام حينها "جميل شيّا"، بعدما ضاق ذرع نظام بعث أسد بالمحتوى الذي ظلّت الجريدة تقدّمه وبتأثيره، المجلّة التي كان السوريون ينتظرون صدورها ويتخاطفون ويتبادلون أعدادها لأنّها لم ترحم أحداً من الفاسدين أو المتجاوزين أو المُهملين. 

صدقي إسماعيل و(الكلب) 

أمّا "صدقي إسماعيل" (1924-1972) الكاتب الروائي والمسرحي السوري المولود في مدينة أنطاكية والذي كان أحد أعضاء المؤتمر التأسيسي لحزب البعث، فلقد كان صاحب سابقة في الصحافة عموماً وفي الصحافة الساخرة على وجه الخصوص، إذ شرع في خمسينيات القرن الماضي بنفسه (في 1954 غالباً) وبخطّ يده كلّما سنحت الفرصة وسمح الوقت بكتابة أوراق أطلق عليها اسم "جريدة الكلب"، فلم يكن "إسماعيل" يصدرها في أوقات محدّدة، لكنّ الظروف وطبيعة الأحداث الجارية كانت المحفّز الرئيس للكتابة، وكانت كلّ أخبارها وقصصها وقضاياها تُصاغ شعرياً، بتهكّم وسخرية. 

جريدةٌ نكتُبُها بالشعرِ 

تصدُرُ في الأسبوعِ أو في الشهرِ 

تُعالجُ الأمورَ باتّزانِ 

وتخدمُ الجميعَ بالمجّانِ 

نخطُها في البيتِ أو في المقهى 

في نُسخةٍ وحيدةٍ فاقرأها 

كانت جريدة الكلب (التي ظلّت مدّة تصدر باسم جريدة الجسر) حدثاً عجيباً في عالم الصحافة، جريدة بلا ترخيص طبعاً، مكتوبة بخطّ يد صاحبها "صدقي إسماعيل" الذي قيل إنّه كان يكتبها في المقهى ويعطيها لأحد أصدقائه ثمّ يتمّ تناقلها وتداولها ونسخها بلا حاجة إلى مطابع ودور نشر وبلا ثمن أو اشتراكات، وكان الأغرب التزامها بالشعر الموزون المقفّى وسيلةً للتعبير عن المحتوى، وكان هذا المحتوى يضمّ معظم ما تضمّه محتويات "الجرائد الطبيعية" عموماً، مقال افتتاحي، مقال رئيسي، عنوان رئيسي، كلمة العدد، مقالين في السياسة الدولية والمحلّية، كلمة لرئيس التحرير، صورة العدد وإعلانات وحالة الطقس أيضاً!.  

بعد انقلاب العسكر البعثيين سنة 1963، كتب "صدقي إسماعيل": أصدرتُ الجريدة حين رأيت أوّل ديكتاتورية تُقام على رؤوسنا، لقد شعرتُ بالاشمئزاز من التصرّفات المجنونة والمزيج العجيب من القسوة اللامتناهية، وكان لا بدّ من عمل شيء لكشف هذه المتناقضات وردّ الشباب إلى حقيقتهم، فكانت "جريدة الكلب" التي كنتَ تستعيرها ولا تردّها!. 

وصل الأمر بهذا الاختراع العجيب "جريدة الكلب" إلى اعتماد مراسلين وممثّلين لها في "محافل دولية"، كان من بينهم مرّةً "سليمان العيسى" الشاعر السوري المشهور، الذي كان صديقاً لصدقي، وكان عضواً في مؤتمر السلم العالمي الذي عُقد في "هلسنكي" عاصمة "فنلندا"، فأرسل لجريدة الكلب تقريراً عن الحالة قال فيه: 

نحنُ في مُنتصفِ الليلِ هُنا 

وضياءُ الشمسِ في كلِّ مكانِ

نحنُ عندَ القطبِ لا ينقصُنا 

عنهُ في الواقعِ إلّا فشختانِ..

إنّ "فنلندا" بلادٌ حلوةٌ 

وكثيراتٌ بفنلندا الحسانِ!

طبعاً.. (الحسانِ) صُرّفت هكذا تحت بند الضرورة الشعرية، لكنّما يا له من توصيف رائع بسيط مُركّز وصريح، فلقد كان مؤتمر السلم العالمي فرصةً مباشرةً لمُشاهدة الجمال "الإسكندنافي"، والفرجة على الشمس في الليل، ما يشبه قولنا لكنّما بالعكس: والله لفرجيك نجوم الضهر!. 

ولقد كان سقف الجريدة "جريدة الكلب" عند الحديث عن السياسة العالمية أو الدولية عالياً مثل: 

أمريكا بنتُ كلبٍ هكذا

أجمعَ الرأيُ ووافَقَنا كمانْ

شرّدتنا وأقامتْ دولةً 

في أراضينا كرأسِ الأفعوان. 

كما كان سقفها مرتفعاً بخصوص السياسات السورية الداخلية، مثل مادّة شعرية على نحو منهج الجريدة، أتت في زاوية "الإعلانات": 

شخصٌ هُنا أعلنَ عن نفسِهِ

فصارَ في مدّةِ شهرٍ وزيرا 

وأنتَ قلّدهُ وكُنْ مثلَهُ

تَجِدْ على بابِكَ حالاً خفيرا. 

توفّي "صدقي إسماعيل" سنة 1972، فتوقّفت "جريدة الكلب" التي لم يُطبع منها بآلات الطباعة سوى عدد واحد سنة 1969، وغالباً ما سُرَّ "حافظ أسد" بذلك أيّما سرور، فلقد كان "صدقي" البعثي صادقاً في مناوئة تسلّط البعث على البلاد والعباد، الرجل الذي ألّف في الرواية والقصّة والنقد أعمالاً مهمّة كان من بينها "الله والفقر" المجموعة القصصية التي اقتُبِسَ منها مسلسل "أسعد الورّاق" الذي عُرض سنة 1975 وأُعيد إنتاجه في 2010. 

لم يكن للصحافة الحرّة لا الساخرة ولا الطبيعية في سوريا دور يُذكر بل ولا وجود في ظلّ بطش أسد الأب ثمّ ابنه البارّ، الكلمة المكتوبة المطبوعة مشكلة للسلطات القمعية بالفعل، فهي تمضي مع حواسّ الناس، يلمسون الجرائد يشاهدونها يقرؤونها ويسمعونها، ولا يبقى سوى أن يبتلعوها!، كلّ أعمال الدراما والمسرح والأفلام والأفلمانات التي سُمِح بها للتنفيس كما يقول البعض أو للتفليس كما يقول البعض الآخر أو للتنجيس كما يقول بعض الآخرين، لا تُحدث الأثر الذي تُحدثُه الكلمة المكتوبة المنتشرة، تلك الكلمة تظلّ حيّةً وهناك دليل مادّي!. 

وكم جنّ جنون نظام أسدين في سبيل مصادرة أعداد من صحيفتي "الشرق الأوسط" و"النهار" مرّات كثيرة، حتى كتاب "الأسد- الصراع على الشرق الأوسط" -مثالاً- الذي كتبه الصحافي البريطاني "باتريك سيل" بعد لقاءات كثيرة مع أسد الأب نفسه وبعلمه، تمّ منعه من التداول في سوريا، مع أنّ الكتاب والكاتب متّهمان بتلميع صورة أسد الأب، لكنّ ذكر حقائق ووقائع مكتوبة ومطبوعة يُشبه شيئاً مثل "الأوراق الرسمية" ربّما!. 

علي فرزات و(الدومري)  

لم تعرف سوريا طوال حكم أسد الأب شيئاً عن أو من الصحافة الساخرة، حتّى سمح ابنه وريث السلطة عديم الموهبة والضمير لـرسّام الكاريكاتير الأوسع شهرةً وحضوراً الظريف المحترم "علي فرزات" بإصدار جريدة "الدومري"، فصدر العدد الأوّل منها في 26 شباط 2001، وكانت حالةً وحيدةً وفريدةً في الصحافة السورية المستقلّة الحرّة والساخرة، وكان الترخيص بإصدار "الدومري" أوّل ترخيص يُعطى لصحيفة مستقلّة منذ 1963، ويُقال إنّ نحو خمسين ألف نُسخة من عددها الأوّل قد بيعت في بضع ساعات، ولا يمكن تفسير هذا سوى بأمرين: الأوّل توق السوريين الشديد للحرّية وحبّهم للنكتة واستهزاؤهم بالواقع، والثاني المحتوى، فلقد كان محتوى جريدة "الدومري" فخماً ومسؤولاً منذ البداية، ما أذهل قرّاءها الذين حُرِموا كثير الكثير من الوقت من وسائل ورسائل إعلامية شفّافة حريصة دقيقة ذكية وساخرة!. 

سمح بشّار أسد بتأسيس "الدومري" بدعوى حرّية الصحافة وتوسيع هامش حرّية التعبير عن الرأي (خلال فترة ما عُرِف بربيع دمشق)، لكنّه وأجهزته الأمنية لم يحتملوا طويلاً مجرّد نسمة ربيع ولا الصحيفة طبعاً، فتمّ إغلاق هذه الصحيفة المميّزة التي صدرت في أبشع الأوقات، أوقات القبول بسلطة "الأمر الواقع المؤلم"، توريث ديكتاتور مجرم الحكم لابنه الديكور المجرم، فبعد أقلّ من ثلاث سنوات، بسبّة مخالفة قانون المطبوعات وبقرار من وزير الإعلام السوري الأسبق "عدنان عمران" تمّ منع توزيعها، ثمّ بقرار من رئيس مجلس الوزراء "محمّد مصطفى ميرو" تمّ في 31/7/2003 إلغاء ترخيص الصحيفة. 

في الحقيقة توقّع الكثيرون بل أغلبية السوريين الإعلاميين والصحافيين والقرّاء والمطّلعين والمهتمّين بالثقافة والمجتمع والشأن العامّ ألّا تطول مدّة السماح لصحيفة "الدومري" بالاستمرار، فلقد قدّمت للسوريين شيئاً افتقدوه منذ عقود حول ضرورة فضح الفساد والمطالبة بالشفافية والمحاسبة والتأكيد على حرمة الحقوق والحرّيات، بأساليب مباشرة ساخرة وثائرة، في ظلّ سلطة قمعية غاشمة وغبية حاولت إيهام السوريين أنْ ثمّة هامشاً لحرّية التعبير، وأنّ الصحافة الحرّة والإعلام المستقلّ شأنان من الشؤون الوطنية لا يجوز المساس بهما، وفي الحقيقة.. كان هذا محض خيال، فلقد استغرقت "الدومري" في منام إلهام انتهى بعد فترة قصيرة بكابوس مدروس!. 

صدر من صحيفة الدومري مائة وستّة عشر عدداً، يمكن القول إنّها سارت تباعاً على نهج واحد، نهج محاربة الفساد والامتعاض من الكساد والمطالبة بتحرّر العباد من الاستبداد والطغيان والاستفراد!، فكان مصيرها "المحتوم" الإغلاق، وكان مصير الصحافة السورية الحرّة معروفاً أصلاً، مثلما قيل في فقرة سابقة عن مادّة نُشرت في مجلّة "المُضحك المُبكي" حول الدستور والانتداب، بالفعل هو هذا السؤال: كيف صدّق "علي فرزات" أنّ رجلاً معتوهاً ورث بقدرة الشيطان سوريا العظيمة برمّتها عن أبيه الوغد الحقير سيسمح بحرّية الصحافة والإعلام؟، والأنكى.. كيف يمكن أن يسمح للسوريين بقراءة أوجاعهم ومعرفة مكامنها وبالابتسام المرّ؟. 

التعليقات (1)

    مصعب الحسن

    ·منذ سنتين 5 أشهر
    جميل.. شكراً على هذه المعلومات والسرد المتوازن.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات