المستنقع والبركان: كيف يمكن للبراكين العربية أن تجفف المستنقعات؟

المستنقع والبركان: كيف يمكن للبراكين العربية أن تجفف المستنقعات؟
من أخطر الحالات التي يعيشها مجتمع ما حالة الركود التاريخي. والركود التاريخي بالتعريف القضاء على أي قوى اجتماعية – سياسية محركة للتاريخ، وإذ يتحول المجتمع إلى خلو من هذه القوى مع وجود سلطة مناهضة للتاريخ وسيرورته فإن المجتمع يتحول إلى مستنقع تحرسه ثلة من الخنازير البرية.

 واطمئنان السلطة لهذا الاستنقاع يزيد من تغولها واستخفافها بالبشر حتى يسيطر عليها الظن بأن لا قوة قادرة على زعزعتها أبداً. فمنذ منتصف الستينات بدأت عميلة تكون المستنقعات المتحالفة والمتشابهة في البلدان العربية التي شهدت ازدهارا في فاعلية الفئات الوسطى وبخاصة الجيش. وفي السبعينيات بدا وأن المستنقعات أخذت شكلها النهائي وراحت تزداد عمقاً و ثراءً في أنماط الوسخ التاريخي.

الركود التاريخي بالتعريف القضاء على أي قوى اجتماعية – سياسية محركة للتاريخ

 خلال فترة واحدة تقريباً حصل أن انتقلت السلطة إلى عدد من الطغاة عبر انقلابات عسكرية، النميري في السودان عام 1968، القذافي في ليبيا عام 1969، حافظ الأسد في سوريا عام 1970، السادات في مصر عام 1971، مبارك عام 1981، اغتيال الغمشي واستلام علي عبدالله صالح 1978، وأخيراً بن علي1987 الذي تأخر على ما يبدو كثيرا.

لسنا الآن في معرض تحليل الانقلابات العسكرية وأسبابها، وما إذا كانت ثمرة خطة ما قائمة في الغرب وأمريكا كما يرى الكثيرون. المهم في الأمر أن هذه الانقلابات أسست لأشنع أنماط الحكم في العالم المعاصر . لقد وضع قادة الانقلابات أمام أعينهم هماً واحدا وحيدا: البقاء في السلطة إلى "الأبد". 

لقد ظل السادات يحكم مصر بعد انقلابه عبر توريث السلطة بعد الموت إلى نائب عرف كيف يحافظ على السلطة مدة ثلاثين عاماً. واستمر البشير بوصفه وارثاً لهوية سلطة جعفر النميري وسار بن علي على طريق الأسد ومبارك. وتعرف علي عبدالله صالح على طريق الاحتفاظ بالسلطة بشكل ممتاز بعد اغتيال الحمدي والغشمي. وأحكم الأسد بيديه على عنق سوريا ثلاثين عاماً و أورث ابنه هذا الإحكام. وتحول القذافي إلى الحاكم بأمره على ليبيا. وسيطر صدام حسين سيطرة كاملة على مقاليد السلطة.

هذه الانقلابات العسكرية أسست لأشنع أنماط الحكم في العالم المعاصر . لقد وضع قادة الانقلابات أمام أعينهم هماً واحدا وحيدا: البقاء في السلطة إلى "الأبد". 

كان الاختلاف النسبي بين هؤلاء مرده إلى اختلاف الحقل الثقافي – الاجتماعي الذي ظهر فيه كل طاغية منهم، وهذا أدى إلى اختلاف المستنقعات واختلاف البراكين. نشأ المستنقع المصري وتطور في حقل مجتمع ذي علاقة عميقة بالدولة. وفي حقل دولة تستخدم الحد الأدنى من العنف. والتفاوت الطبقي عميق، والمجتمع المدني قوي، والنخبة ذات أثر بالحياة والجيش مؤسسة قوية التأثير دون تدخل في حياة الناس، والأصولية الإسلامية قوّت من شوكة أجهزة الأمن. لم يكن المستنقع المصري عميقاً بما فيه الكفاية لتدمير مصر تدميراً كلياً. 

في واقع كهذا لم تكن فكرة التوريث قابلة للحياة لأن المستنقع لم يكن عميقاً بما فيه الكفاية – كما قلنا لتحقيق ذلك. ولهذا كان الانفجار داخل المستنقع سهلاً وقليل التكلفة. كان الإخوان المسلمون دخان البركان والشباب حممه وغاب نظام مبارك عن مصر لتبدأ مرحلة الصراع على السلطة بين قوى دينية مغتربة عن التاريخ الواقعي – يمثلها الإخوان المسلمون – وبين قوى مدنية وعسكرية. 

وسيبقى هذا الصراع قائماً لسنوات قبل أن ينتصر التاريخ الديمقراطي على تقاليد دولة عميقة بيروقراطية مركزية. يقترب المستنقع التونسي من المستنقع المصري حيث المجتمع التونسي قد حصل بأنيابه على نقابات وأحزاب، وحيث التجربة الدستورية تركت أثراً مهماً على الوعي حتى على وعي الحركة الدينية الغنوشية . وفساد العائلة و الأصهار لا يختلف كثيراً عن فساد العائلة المباركية .

ولكن هناك جانب مهم ألا وهو أن بن علي لم يكن لديه من يورثه من الأبناء ولا من يتسلم أحد مراكز القوى كعلاء مبارك. إنه نظام بطالة وفقر واستبداد. لم يكن الجيش في قبضة بن علي بالمعنى الدقيق للكلمة ولهذا عندما أيقن أن لا سبيل إلى مواجهة الثورة الشعبية حمل نفسه بكل خوف وأدب على الرحيل إلى مكان يعرف أنه لن يخذله سياسياً وقيمياً. فهو قد أخذ صورة «الدخيل» الذي يطلب الحماية. لكن الفرق بين المستنقع المصري و المستنقع التونسي قائم في أن القيح الأصولي – السلفي المصري أوسع وأكبر وأعمق .

يقترب المستنقع التونسي من المستنقع المصري حيث المجتمع التونسي قد حصل بأنيابه على نقابات وأحزاب، وحيث التجربة الدستورية تركت أثراً مهماً على الوعي حتى على وعي الحركة الدينية الغنوشية .

تميز المستنقع الليبي بضعف شديد للمجتمع و للدولة معاً في مجتمع بالأصل ريفي – فلاحي عشائري. وصل الحاكم الفرد في طرابلس حد جنون العظمة مع برنويا لا يدركها إلا من تعرف عليه رؤية العين و دقق في كلماته.

فملك ملوك أفريقيا وصاحب كتاب كان يظنه منقذاً للبشرية كان خائفاً على ملكه ويرى الكل أدنى منه. كان مؤمناً إيماناً مطلقاً بأن الكل أدنى منه، ولهذا كانت نخبته الحاكمة ذات سوية متوسطة وعالية، وهي التي حملت عبء الانتقال السياسي. لم يستطع المال الريعي والجامعات الكثيرة أن تدمر البنية المناطقية – العشائرية بقرار . ذلك أن حرمان المجتمع من السياسة والنقابة و الحرية لا يسمح لأية بنية قديمة بالزوال عبر قرار إداري. ولهذا تحولت اللجان الشعبية إلى أجهزة قمع سلطوية شديدة البطش. فضلاً عن أن المؤسسة العسكرية بمجملها كانت في قبضة القائد.

كان انفجار البركان داخل هذا المستنقع انفجاراً فجائياً غير متوقع، ولهذا كانت دهشة "القائد" قوية وعماء القوة لم تسمح له أبدا بالتفكير . وصار ما صار . أما في اليمن بالمجتمع القبيلي اليمني المسلح لا يسمح– على ما يبدو – بانتصار ديكتاتور فرد حاكم بأمره كما هو الحال في مجتمع ليبيا القبيلي، المسالم .

ولهذا كان الدكتاتور جزءاً من بنية مجتمع قبيلي دقيق في علاقته المتبادلة . فهذا السنحاني المنتمي إلى حاشد قادر على إدارة لعبة ديمقراطية وخالية من العنف. ولهذا اعتمد على الجيش وليس على رجال الأمن. فحرية الأحزاب وحرية الصحافة والتعبير كانت جنباً إلى جنب مع حرية الفساد من جهة وتوزيع القوة على الأولاد و الأقربين جدا من جهة أخرى. ولهذا كان أول إسفين دق بعد البركان انشقاق في الجيش يقوده واحد من آل الأحمر أي حاشد.

تميز المستنقع الليبي بضعف شديد للمجتمع و للدولة معاً، في مجتمع بالأصل ريفي – فلاحي عشائري. وصل الحاكم الفرد في طرابلس حد جنون العظمة مع برنويا لا يدركها إلا من تعرف عليه رؤية العين 

غير أن سجله الحافل في مواجهة القاعدة وقرب اليمن من السعودية ودخولها على الخط وبقاء البركان سلميا و التدخل الأمريكي كل ذلك سمح بنوع من تقاسم سلطة بدون علي عبدالله صالح. إنه الوحيد من بين أربعة بقي حرا في وطنه قبل أن يقتله حليفه الحوثي. فالقذافي قتل و مبارك سجن وبن علي هرب وعلي عبدالله صالح بقي. ولهذا كان البركان اليمني ضعيفاً قليل النفثات أبقى على قوى النظام القديم عبر اتفاقية واعتراف متبادل..

أما المستنقع السوري فهو المستنقع الأوسع و الأعمق من بين هذه المستنقعات. ولهذا كان البركان أشد. فالمستنقع السوري رسوبي راكم قوته عبر أربعين عاماً في تأهب دائم لمواجهة أي نوع من أنواع البراكين عبر عصبية طائفية ملطفة بأيديولوجيا فقدت تأثيرها المجتمعي و الحزبي هي الأيديولوجيا القومية، ووعي فلاحي قديم بالسلطة. كان حجم القمع لدى المستنقع هذا لا مثيل له في العالم أجمع، فلقد سجن الإخواني والتحريري والبعثي والناصري والشيوعي من كل أنواع الشيوعي و المستقل.

لقد حطم الجامعة والتعليم والقضاء – حطم المؤسسة ولم يبق على أي مكان في مؤسسة الدولة إلا ودمره. لم يسمح بصحافة أو لمجتمع مدني أو بحركة سياسية أو بجمعية خارج سلطته إلا جمعية المسنين وما شابه ذلك.

المستنقع السوري هو المستنقع الأوسع و الأعمق من بين هذه المستنقعات. ولهذا كان البركان أشد. فالمستنقع السوري رسوبي راكم قوته عبر أربعين عاماً في تأهب دائم لمواجهة أي نوع من أنواع البراكين، عبر عصبية طائفية ملطفة بأيديولوجيا فقدت تأثيرها المجتمعي والحزبي، ووعي فلاحي قديم بالسلطة.

في الآونة الأخيرة كان النفاذ من هذا الجدار الكتيم صعباً إلا في حدود، وراح السوري ينوس بين تعايش مجبر عليه وتلاؤم من أجل أن تتحول الحياة إلى أمرٍ طبيعي من جهة، وبين تنامي الأحقاد واقتناص الفرص للانفجار من جهة ثانية. وكان الانفجار. لكن حجم المستنقع وعمقه ميزه عن الانفجارات الأخرى .والمشكلة الآن هي الآتية:

كيف يمكن للبراكين العربية أن تجفف المستنقع، وكيف يمكنها الحيلولة دون تكوّن مستنقع آخر؟

التعليقات (3)

    علوي علماني

    ·منذ سنتين 10 أشهر
    مع انك أستاذي اللي درست الفلسفة علي ايديه بالجامعة. وأبلاقي أمتع وأعمق من مقالاتك. لكن حديثك عن "الوعي الفلاحي القديم بالسلطة" وهنت متحلل المستنقع السوري فيه عنصرية وتعالي ابن المدينة تجاه الريف. هنت مالك شامي ولا حلبي يا دكتور.. وفلسطين كلها كانت مجتمع فلاحي علي ما اظن

    السيف الدمشقي

    ·منذ سنتين 10 أشهر
    فعلا انت ما بتستحي يا سيد علوي علماني يا خسارة اللي علمك ياه الدكتور برقاوي فيك. وفعلا مافي أمل منكم لا بعلماني ولا بغيره

    hope

    ·منذ سنتين 10 أشهر
    مع احترامي للمقاربه لا تنسى يادكتور ان المستنقع السوري هناك من يغذيه بمياه اسنه للابقاء على العفن حتى الان لا يستطيع البركان اطفاءه ليس لعمقه ولكن لان مستنقغات اخرى تغذيه ظاهرا و باطنا.
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات