حين بكى إيلي كوهين في إدلب!

حين بكى إيلي كوهين في إدلب!
زار "كامل أمين ثابت" إدلب في بداية ستينيّات القرن الفائت وتردّد عليها مِراراً، وقصّ شعره وحلق لحيته عند "محمود دقسي" رحمه الله، وتعرّف على أناس كثيرين من المسؤولين وغيرهم بسبب صداقته مع "قائد الحرس القومي في إدلب آنذاك "معزّى زهر الدين"، وذكر بعض المسنّين الذين فوجئوا بهويته الحقيقية بعد القبض عليه أشياء عن أناقته لباقته لطفه وكرمه، لكنّني أذكر حادثةً رواها لي عمّي الدكتور "مصطفى كمال بعث" رحمه الله، والمحامي "محمّد هلال" وهو عميد متقاعد من الشرطة، وقد كان الأوّل مديراً للصحّة في إدلب والثاني رئيساً لقسم الأمن السياسي فيها آنذاك. 

قالا: ذهبنا إلى "حارم" (أقصى شمال غرب سوريا) لحضور مناسبة رسمية مع المحافظ والمسؤولين والضبّاط وعدد من أعيان البلدة، وكان بيننا هذا الرجل "كامل أمين ثابت"، وعرفنا بطريقة ما أنّه كان مدعوماً بتوصية من "دمشق"، والحقيقة أنّه بدا في منتهى الودّ والدماثة فاحترمناه كثيراً، وحين انتهت الفعالية الرسمية توجّهنا إلى الحدود المباشرة بين "حارم" و"لواء إسكندرون" حيث تُشرف جبال حارم على سهول اللواء مباشرةً، وبعد أن بدأت أوّل خطبة عصماء حول الاحتلال والوطن واللواء السليب انقلبت مشاعر احترامنا وتقديرنا للرجل إلى مشاعر إعجاب شديد وفخر عظيم، فلقد صار يبكي ويشهق مثل طفل صغير مات أبوه وأضاعته أمّه، بل صار ينتحب ويصرخ:

 آه وآه عليك يا إسكندرون، آه على هذه الطبيعة وهذا الجمال، كيف غصبوكِ ّأيّتها الأرض السورية المباركة، كيف تخلّينا عنك يا قطعة من الجنّة؟ وهكذا دواليك..

 لكن طبعاً ليس بالفصحى كما أكتب الآن، بل بلهجة سورية كلّ كلمة فيها من ديرة!. قال العميد محمّد: كاد الرجل يسقط مغشياً عليه، فانبرى بعض الحاضرين يهدّئون من روعه ويواسونه، ثمّ حين انتهينا من هذه الوقفة القومية العروبية العظيمة قلت لأحد الأصدقاء: هل هذا الرجل مجنون أم نحن أوباش كلاب لا نعرف معنى الوطنية!.  

في 18/5/1965 أُعدِمَ "كامل أمين ثابت" في "ساحة المرجة" بدمشق بتهمة "الخيانة العُظمى" بسبب التجسّس لصالح "إسرائيل"، فلقد تبيّن أنّه "إيلياهو شاؤول كوهين"، إسرائيلي يهودي زرعه "الموساد" في سوريا، على أساس أنّه سوري ثري هاجر إلى الأرجنتين ثمّ عاد إلى سوريا حبّاً بالوطن وحنيناً إليه، وتبيّن أيضاً أنّ أصوله من حلب لكنّه ولد في الإسكندرية وعاش شبابه في مصر ثمّ هاجر إلى إسرائيل، وفي الحقيقة.. إنّ الروايات التي تُحكى عنه كثيرة متضاربة ملأت الإعلام وشغلت الناس، كيف عاش؟  كيف تمّ تجنيده؟، هل قدّم خدمات مهمّة لإسرائيل أم كان مجرّد جاسوس فاشل؟، إلخ.. 

من الموثّق في إدلب عن "كامل أمين ثابت" أنّه ألقى محاضرةً بعد انقلاب البعث العسكري سنة 1963 وداخل مقرّ حزب البعث عن "الأحواز"، الأحواز العربية التي احتلّتها إيران، مؤكّداً على أهمّيتها وأهمّية العمل على استرجاعها، حاثّاً بكلّ حماسة وتأثّر واندفاع همم الحاضرين على العمل في سبيل ذلك بكلّ ما أوتوا من قوّة وعزم!. 

يرى "أكرم الحوراني": أنّه كان المطلوب من "كوهين" الوصول إلى منصب أو مكانة يستطيع من خلالها التوجيه نحو صرف الأنظار عن "القضيّة الفلسطينية" بلفتها إلى قضايا عربية أُخرى (كما حدث في جولة حارم، أو كمُحاضرة إدلب عن الأحواز)، ويقول "الحوراني" الذي كان أميناً عامّاً لحزب البعث وصار نائباً ورئيساً لمجلس النوّاب ووزيراً ورئيساً لمجلس الوزراء ونائباً لرئيس الجمهورية العربية المتّحدة: (كانت محاكمة كوهين مهزلة وإهانة للسوريين وذكائهم وتزوير وتضليل، فهو لم يذكر في التحقيقات كما وردت حتّى أسماء البعثيين الذين تعرّف عليهم، أمّا موظّفو الإذاعة ودوائر الدولة الذين كانوا يمدّونه بالمعلومات، فلقد تمّ ذكر أسمائهم جميعاً). 

قصّة مُحاكمة "كوهين" على هذا المنوال، لتجنيب القيادات العسكرية والبعثية تُهَم التورّط في قضيّته، تذكّرني بقصّة مصغّرة تشبهها حول عناصر شرطة كانوا حرّاساً في "سجن عدرا" وتمّ اتّهامهم بإدخال حبوب مُخدّرة إلى السُجناء، فشُرِع في محاكمتهم وإحالتهم إلى مجلس انضباطي. 

قال الشرطي الأوّل: أقوم بأخذ الأدوية من صيدلية ابن عمتي بدون وصفة. 

قال السجين الأوّل: أقوم بشراء الأدوية من الشرطي حسّان، لكن حصراً في نوبة الملازم أوّل علي.

قال الشرطي الثاني: لا، مالي علاقة!، الدواء يشتريه الملازم أوّل هشام بنفسه للسجناء.

وهكذا حتّى حسم السجين الزعيم واسمه بالحرف "نُمير الأسد" القضية فقال للمحقّق: اكتيب عندك اكتيب ولااا، منحكي تلفون من غرفة الرائد عمر، ومنشرب حشيش بغرفة العقيد مهنّا، ومنجيب نسوان لغرفة العميد حسيب و.. و..، فتقرّر إيقاف التحقيقات على الفور وإنهاء القضية، كي لا يصل البلّ على الأقلّ لذقن "محمّد حربا" الذي كان وزيراً للداخلية. 

أُعدِمَ "كامل أمين ثابت" عام 1965 بتهمة الخيانة العظمى مع أنّه ليس سورياً، ولقد قال في محاكمته أنا لست جاسوساً وإنّما مبعوث!، ولقد صدق بالفعل فلقد بُعِثَ حقّاً وعاد يردّد على مسامعنا طوال خمسين سنة عبارات المُقاومة وأناشيد المُمانعة وشعارات الصمود والتصدّي، ويذرف الدموع على فلسطين، الجولان، الأحواز، ولواء إسكندرون، حتّى إذا كُشِفَ أمره مُجدّداً بعد كلّ هذا الوقت، لكنّه لم يقل ما قاله في محاكمته "الأولى" أنا لستُ جاسوساً لكنّني "مبعوث"، بل قال للذين كشفوه: أنتم جواسيس، جراثيم، عملاء ومندسّون، وأنا من سأعدمكم هذه المرّة. 

رحم الله الأستاذ المحامي "سامي حامد" ابن السويداء وإدلب الأصيل، ولقد كان مصدري عن حادثة "محاضرة الأحواز"، قال: كلّما شاهدت "حافظ أسد" يلقي خطاباً عن العروبة والقومية والوطن غالٍ والوطن عزيز، تذكّرت فوراً كيف صفّقنا بحماس يَعرُبي عتيد لإيلياهو شاؤول كوهين في إدلب المسكينة ذات يوم!

التعليقات (3)

    علي المحاميد

    ·منذ 3 سنوات 6 أيام
    أضيف على هذا المقال ان حافظ السد جاسوس اكبر بكثير من كوهين هوا نجح بالوصول واعطى إسرائيل مالك تكن تحلم به وارجع سوريا الي العهد الحجري قريبا إسرائيل لستطالب أيضا برفاته

    Asyrian

    ·منذ 3 سنوات 6 أيام
    تماما. الجاسوس الاسرائيلي الاوفى الذي نجح في التنكر بثوب الممانع لأمه اسرائيل هو النافق حافظ الاسد الذي استحق لقب "كلب اسرائيل". وجرو اسرائيل من بعده ابنه بشار اتم ويتم المهمة على اكمل وجه.

    Asyrian

    ·منذ 3 سنوات 6 أيام
    انها مسألة وقت فقط وتتخلص اسرائيل من جراءها وكلابها بشار الاسد, حسن نصر الله والنظام الخميني الطائفي في ايران
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات