"التغييب" في سجون ومعتقلات عصابة أسد، ظاهرة حقيقية مدروسة ممنهجة، وليست مصادفةً أو سلوكاً عرضياً، وحين يقول الضابط المحقّق للمتّهم بإضعاف الشعور القومي أو الانتماء إلى جماعة محظورة بل بمظاهرة أو اعتصام : (والله لحطّك ورا الشمس)، يضعه فعلاً، ليس وراء الشمس بل في بئر مسدود سحيق، لا قعر له.
لا أخبار تصل، لا زيارات، لا وسيلة للتواصل مع أحد، حتّى داخل السجن، بل إنّ الكثيرين خرجوا بعد سنوات عديدة، بعد أن زُيّفَت مشاهد الخارج في مخيّلاتهم، فوجدوا عالماً مختلفاً تماماً عمّا كانوا يتصوّرونه، وعن الروايات التي كان السجّانون -بإيعاز أو بدونه- يروونها لهم، وروى أحد المعتقلين أنّ عناصر الحراسة دخلوا مرّةً إلى الزنزانة وشرعوا يضربون كلّ من فيها بالعصي والكابلات وهم يصيحون: السيّد الرئيس حرّر القدس، وانتو رح تتخواهون يا كلاب، قال: وظللنا شهوراً نصدّق هذه الرواية، حتّى أنّ بعضنا ندم بالفعل، لأنّه وقف ضدّ السيّد الرئيس ونظامه، فمن يحرّر القدس لا يستحقّ سوى التقدير والاحترام!.
نظام غيّب شعباً كاملاً خارج السجون، فماذا سيفعل داخلها؟. نعم، شعب كامل كان مغيّباً بل واقعاً في غيبوبة، حتّى بعد عشر سنوات من الثورة السورية العظيمة. ألا تستحقّ نظرية "التنويم المغناطيسي" بعض النظر؟، كيف يمكن تفسير حالة الخنوع التي ما زالت مستمرّةً إذاً؟!.
وبالطبع.. لا تنطبق ولا تُطبّق قاعدة التغييب والتهميش إلّا في مسائل الحقوق وشؤون الحرّيات، أمّا في الواجبات، فالكلّ ينبغي أن يكون حاضراً، في المسيرات، الاجتماعات والهتافات، في العمل التطوّعي، في الضرائب، وحتماً في الانتخابات، كم هو دقيق حريص نظام أسد على هذه القضية!، وكم تساءلنا: ما الغاية من كلّ اهتمامه هذا ولا منافس له ولا بديل؟، هل ثمّة هدف سوى الحرص على صدور رسالة الإذعان من الجميع، ثمّ وفرز الناس، من قال نعم إلى الحظيرة، ومن قال لا.. غالباً لا نعرف إلى أين!.
على سيرة حرصه الشديد على العملية الانتخابية، واهتمامه بإتاحة الفرصة للجميع لممارسة "حقّ اختيار أسد" أو مرشّحيه في مجلس الشعب، يعرف السوريون في تلك المرحلة، كيف اخترع النظام شيئاً اسمه "صندوق البادية" أو الصندوق الجوّال.
صندوق تحمله إحدى اللجان الانتخابية المعيّنة مرفقةً بإحدى الجهات الأمنية المختصّة، لتجوب به البوادي السورية في محافظات الحسكة الرقّة دير الزور حلب إدلب حمص حماة السويداء وريف دمشق، من أجل تمكين المواطنين السوريين من البدو الرّحل (ونسبتهم قرابة 15- 20 %)، من ممارسة حقّهم الانتخابي وفق الدستور، وكان الصندوق يعود محمّلاً بعشرات الآلاف من البطاقات الممهورة بكلمة نعم، بل وأكثرها بالدم!.
هذا الصندوق لم يكن مؤثّراً طبعاً في نتيجة الانتخابات الرئاسية المحسومة سلفاً، لكنّه كان يُستعمل لترجيح الأصوات لصالح المرشّحين لمجلس الشعب خاصّةً المستقلّين الذين دفعوا أكثر أو تمتّعوا بحظوة لدى مخابرات أسد وعصاباته.
وأذكر تماماً أنّ مرشّح مجلس الشعب المستقل في إدلب "صادق العمر" وهو من قرية "زردنا"، بدأ بالاحتفال مع ذويه وأنصاره ليلة الإعلان عن النتائج لصالحه، فشُرِعَ بقرع الطبول، وتجهيز الموائد، حتّى أتى الخبر من "المحافظة"، بأنّ الفائز مرشّح آخر "علوي" من قرية "اشتبرق"، وبفارق عشرين ألف صوت، فلقد حسم "صندوق البادية" المسألة!.
وعلى سيرة التغييب والبادية، أختم بنكتة أيضاً، فخلال الثورة وقرب "تَدمُر"، استوقف عجوز من البدو بعض جنود النظام ليسألهم عن سبب وجودهم في ذاك المكان، فأخبروه أنّ بعض "العصابات المسلّحة" تحاول إسقاط حكم السيّد الرئيس.
قال: الله يهديهم، وين يلاقون واحد كفو مثل عبد الناصر؟!.
التعليقات (7)