حقيقة الصفقة الامريكية الروسية في سوريا والدور الاوروبي

حقيقة الصفقة الامريكية الروسية في سوريا والدور الاوروبي
الخلاف بين روسيا وامريكا ليس على رحيل الاسد بقدر ماهو تشكيك امريكي في امكانية نجاح روسيا كشرطي جديد في المنطقة (مع) الاحتفاظ بالاسد! تركيا والسعودية لن تقبلا بالشرطي الروسي مع بقاء الاسد وايران لن تقبل به ايضا بدون بقاء الاسد. امريكا تنفذ استراتيجيتها في المنطقة وهي جعل القوى الاقليمية تتحمل مسؤولياتها وتقلع شوكها بايديها مع الاحتفاظ بدور القيادة من الخلف. بهذا يكون المشروع الروسي في المنطقة هو بالاساس مشروع امريكي!  

بعد عقود من سياسة حماية منابع النفط باعتبارها مسألة امن قومي تتخلى عنها بسبب قرب اكتفائها ذاتيا بالنفط والغاز وتعتمد استراتيجة جديدة وهي ان على دول المنبع ان تحمي نفطها بنفسها وعلى الدول المستوردة، اي اوروبا، ان تقلع شوكها مع دول المنبع وتؤمن مصادر طاقتها بنفسها وستكتفي امريكا بدور القيادة من الخلف. بعد انتهاء الحماية الامريكية المجانية لكلا الطرفين وجدت دول الخليج واوروبا نفسها في مياه باردة وعميقة لم تتعود السباحة فيها فظهرت قوى اقليمية كتركيا وايران ليس لها خبرة او قوة اقتصادية وعسكرية تحاول ملأ الفراغ لكن امريكا لا تثق بقدراتها او نواياها.

امريكا تريد ان تحرر مواردها الاقتصادية والسياسية والعسكرية المرهونة في الشرق الاوسط لاستثمارها في شرق آسيا. في مقال نشرته هيلاري كلنتن في مجلة Foreign Policy عام 2009 توضح بالتفصيل سياسات امريكا البنيوية القادمة وهنا اقتبس بترجمة لخلاصة مقالها: "لا يمكنني المبالغة في اهمية جنوب شرق آسيا وشرق المحيط الهادي بالنسبة للولايات المتحدة، فكما تقع اوروبا على ضفة الاطلسي الشرقية كذلك تقع آسيا على ضفة الهادي الغربية للولايات المتحدة حيث يقطن نصف سكان العالم. الاسواق الآسيوية الحرة توفر للولايات المتحدة فرص غير مسبوقة في الاستثمار والتجارة والصناعة والنمو الاقتصادي والوقوف على احدث التقنيات الصناعية لا توفره اي منطقة اخرى في العالم. صحة الاقتصاد الامريكي تعتمد على التصدير والاستفادة من السوق الاستهلاكية الهائلة في دول شرق آسيا. من ناحية بنيوية، ضمان امن واستقرار حوض المحيط الهادئ امرا مهما للغاية للتقدم الاقتصادي العالمي سواء من خلال ضمان حرية الملاحة في بحر الصين اوكبح جماح الطموحات النووية لكوريا الجنوبية والتعاون العسكري الشفاف بين دول المنطقة المفتاحية. تتمحور خطة الولايات المتحدة البنيوية في شرق آسيا على ست نقاط: تقوية التعاون الامني المشترك، تعميق علاقات امريكا مع القوى الآسيوية الصاعدة بما فيها الصين، الانخراض في برامج اقليمية متعددة الاطراف والنواحي، توسيع نطاق التجارة والاستثمار، تقوية وتوسعة تواجد امريكا العسكري في المنطقة، ونشر الديموقراطية وحقوق الانسان".

امريكا ليست عاجزة عن خلع الاسد لكنها ليست راغبة في القيام بدور القيادة. وضعت امريكا كل ثقلها  للضغط على الصين من اجل التخلي عن طاغية ميانمار الذي حكم البلاد بقبضة مافيوية عسكرية اسوأ من نظام الاسد منذ ان اتى حزبه الى الحكم بانقلاب عسكري عام 1962. زار اوباما ميانمار في نوفمبر 2012 وهي في قبضة الطاغية والتقى بزعيمة المعارضة الديموقراطية سو كي في السجن رغما عن الحكومة ووعدها بوقوف امريكا الى جانبها والاطاحة بالدكتاتورية. في 8 نوفمبر 2015 تربح سو كي الانتخابات البرلمانية بنتيجة ساحقة. لم تصبح ميانمار دولة ديموقراطية بعد لكنها قطعت دابر الاستبداد والقمع والمخابرات الى الابد وبدأت معركة بناء الدولة الديمقراطية.

 

روسيا تقوم بالدور المطلوب منها امريكيا اي شرطي المنطقة الجديد بدلا من ايران او تركيا بما يلبي مصالح امريكا ويحفظ مصالح روسيا في سوريا في نفس الوقت. التوافق الروسي الامريكي يشرح الكثير من الخلافات العميقة بين تركيا وامريكا بشأن كيفية الحل السياسي في سوريا منها منع تركيا من اقامة منطقة عازلة او دعم الثوار عسكريا بما يكفي لاسقاط الاسد. السكوت علامة الرضا وطالما ان امريكا لا تمارس اي ضغوطات جدية على روسيا لوقف عدوانها ومجازرها، وهي قادرة على ذلك، فهذا يعني انها راضية عما تقوم به روسيا اذا لم تكن هي من اعطتها الضوء الأخضر للقيام بهذه الحرب القذرة.

اسقاط الطائرة الروسية كان محاولة تركية لجس نبض قوة التفاهم الروسي الامريكي الاوروبي حول مستقبل سوريا وجدية امريكا في تنصيب روسيا شرطي المنطقة. جاء رد فعل حلف الناتو باهتا ولم يشر من قريب او بعيد الى امكانية تفعيل البند الرابع الذي يعتبر اي اعتداء على دولة في الحلف اعتداء على الجميع. كما مارست امريكا وفرنسا وبريطانيا والمانيا ضغوطات كبيرة على تركيا من اجل تهدئة الوضع ومنع حادث محدود من ان يتطور الى حرب شاملة. الاهم من هذا كان الرد الروسي الذي تمادى في الزعيق والنباح حتى وصل حد المهزلة كما لو ان بوتن اراد ان يقول لأوردغان: اين هو حلف الناتو؟ هل اقتنعت الآن بان التفاهم بيننا وامريكا جدي وقوي؟    

الخلافات الروسية الايرانية تشير ايضا الى ان اميركا وروسيا متفقتان على ان تكون روسيا شرطي الشرق الاسط الجديد واقصاء ايران عن هذا الدور. التصريحات الاعلامية التي صدرت عن مسؤولين ايرانيين بهذا المجال كثيرة لكن اهمها تصريح قائد الحرس الثوري الايراني محمد جعفري بان روسيا لا تتفق مع ايران حول مصير الاسد وان روسيا غير سعيدة بوجود حزب الله في سوريا، وان التدخل الروسي العسكري في سوريا تهديد مباشر للامن القومي الايراني. ابرز ما يوضح الخلافات الروسية الايرانية هي زيارة بوتن لايران وكأنه يريد ان يوصل رسالة قوية لقادتها بنفسه ان سوريا اصبحت تحت دائرة النفوذ الروسي وعلى ايران اما ان تقول وتفعل خيرا وتذعن او تصمت وتخرج. فلو كانت ايران وروسيا متفقتان على كل شيئ في سوريا لما استدعى ذلك زيارة لتأكيد المؤكد لكن الزيارة جائت لتأكيد تغيير الاتجاه.

بنظرة سريعة على المصالح الامريكية التي يمكن ان تحققها روسيا كشرطي الشرق الاوسط  نستطيع ان نرى الدور الخلفي لها بكل وضوح. سيطرة روسيا على المنطقة وعلى سوريا خاصة يريح اسرائيل من عبئ حماية مستعمراتها في فلسطين والجولان المحتلتين. كما انها تلبي واحدا من اكبر مطالب الخليج العربي وتركيا باخراج سوريا من دائرة النفوذ الايراني والحد بشكل كبير من اطماعها في المنطقة واستعمال سوريا كنقطة انطلاق لزعزعة الامن والاستقرار في العالم العربي وتركيا. العراق ايضا يمكنه ان يقبل بالوجود الروسي في سوريا بدل الايراني لكنه لن يقبل بالهيمنة التركية وهذا يفسر اشتياطه من وجود 150 مدرب تركي وتجاهله 150 الف عسكري ايراني يحتلون العراق. الشرطي الروسي قد يخفف كثيرا من الاحتقان المذهبي والطائفي في المنطقة ليس من خلال حل كل المشاكل بل من خلال تحويلها الى نزاعات سياسية يمكن التوصل الى حل لها بدل الصراعات الطائفية التي لا تنتهي ابدا.

ربما يكون اكبر هدف يمكن ان يحققه الاحتلال الروسي لسوريا هو منع وصول الاسلاميين وخاصة الاخوان المسلمين الى الحكم وهذا يفسر حماس الامارات ومصر السيسي للعدوان الروسي على سوريا. رغم ان النظام الايراني يتمتع باعتراف دولي الا انه لا يختلف كثيرا عن تنظيم داعش فكلاهما تنظيمان اصوليان متطرفان يمارسان القمع والقتل باسم الدين ويستعملان الارهاب والتطرف من اجل زعزعة الاستقرار في المنطقة وفرض سيطرتهما وهذا يتعارض مع تصور امريكا واوروبا لشرطي المنطقة. الاهم من هذا كله ان اي انتصار للاسلام السياسي في سوريا سوف تنتشر عدواه كالنار في الهشيم ويصل الى جمهوريات روسيا الاسلامية. دعونا ان لا نكون سذج ونتوقع ان امريكا ممكن ان تسمح لحركات اسلامية مهما كانت معتدلة ان تصل الى الحكم في سوريا وما يترتب عليه من انتقال الحماسة الى جمهوريات روسيا الاتحادية وتفتيتها ما يعني كابوسا امنيا لامريكا قبل ان يكون كارثة على روسيا. روسيا لا تشكل تهديدا وجوديا لامريكا كما كان الاتحاد السوفيتي فهي ليست بديل ايديولوجي للرأسمالية بل منخرطة بكل قطاعاتها السياسية والاقتصادية في النظام الرأسمالي بقيادة امريكا. الخلافات الروسية الامريكية سياسية واقتصادية يمكن حلها او احتوائها وليست عقائدية لا تنتهي الا بموت احد الاطراف.

لروسيا مصالح استراتيجية مع امريكا وحلفائها الاوربيين، ومن هنا تأتي قدرة امريكا على فرض عقوبات عليها. روسيا ستستفيد من تنفيذ الدور الذي اسندته لها امريكا في الشرق الاوسط من خلال الاحتفاظ بمصالحها الجيوسياسية في سوريا اي منع المنافسة العربية لنفطها المباع في اوروبا. هذه المنافسة تعتبر مسألة حياة او موت بالنسبة لروسيا وهي مستعدة لتقديم تنازلات كبيرة جدا لامريكا في مناطق اخرى مثل اوكرانيا. في خبر غاب عن معظم وسائل الاعلام يزور نائب الرئيس الامريكي بايدن أوكرانيا ويعلن من هناك ان حل الازمة السورية لن يتم على حساب اوكرانيا. كما ان هناك امور عسكرية في غاية الحساسية والتعقيد بين روسيا وامريكا تتعلق بعدد الرؤوس النووية والصواريخ الباليستية الروسية الموجهة الى اوربا وقد اتفق البلدان في عام 2010 على تخفيضها من 2300 رأس الى 1700 لكن امريكا تريد تخفيضها الى اكثر من ذلك بكثير.

الصفقة الامريكية الروسية واضحة. روسيا تحتفظ ببقاء سوريا عقبة جيوسياسية امام اي منافسة عربية لنفطها، مع ان هذه المنافسة مطلب استراتيجي لحلفاء امريكا الاوربيين الذين يريدون ان ينهو القبضة الروسية الخانقة على اقتصادهم، مقابل ان تقوم روسيا بحفظ الامن الاقليمي في الشرق الاوسط مع تنازلات روسية كبيرة جدا في اوكرانيا وامريكا الجنوبية وقدراتها العسكرية الموجهة ضد اوروبا. لا يبدو هذا تنازلا كبيرا من قبل اوروبا في ظل انخفاض اسعار النفط الى ادنى مستوياتها في التاريخ وحاجة روسيا لبيع نفطها لتمويل مهمتها العسكرية الجديدة اكثر من حاجة اوروبا لشرائه وانعدام امكانية استعمال روسيا لسلاح النفط ضد اوروبا، اي انعدام حاجة اوروبا لايجاد مصدر بديل للنفط الروسي في المدى المنظور. كما ان روسيا ستكون بحاجة الى نقل قواتها المرابطة في اوروبا الى الشرق الاوسط حتى تتمكن من القيام بدورها هناك وهذا سيخفف التهديد العسكري الروسي لاوروبا بشكل تلقائي وكبير، كما يشرح قيام روسيا باستعراض قدراتها الصاروخية وكأنها تقول لاوروبا هذه الاسلحة ابتعدت عنكم وتقول للقوى الاقليمية كتركيا وايران ايضا هذا ما ينتظركم اذا لم تقبلو.

المعادلة السورية ايضا اكثر وضوحا. لا يمكن لروسيا وامريكا واوروبا ان تستفيد من فرض روسيا شرطي على الشرق الاوسط اذا فشلت روسيا في السيطرة على سوريا عسكريا او من خلال تسوية سياسية. اكبر دليل على هذه النقطة هو لعبة بقاء ورحيل الاسد التي يلعبها الاوروبيون. كلما اشتدت المعارضة التركية السعودية للدور الروسي كشرطي في المنطقة، اي تسليح الثوار ضد الاحتلال الروسي، يلوح الاوروبيون بضرورة بقاء الاسد لمحاربة الارهاب والحفاظ على مؤسسات الدولة والتي نعرف جميعا انها اكاذيب. اوربا تهدد باظهار التأييد العلني للمشروع الروسي وهذا ما يستميت من اجله بوتن وسعى الى تحقيقه من خلال التصعيد غير المبرر لاسقاط الطائرة الروسية لكبح جماح تركيا والسعودية في عرقلة المشروع الامريكي الروسي . كلما ابدى الاتراك والسعوديون رغبة في ايجاد حل سياسي يجنب روسيا المواجهة العسكرية يعلن الاوروبيون ان رحيل الاسد شرط للقضاء على الارهاب وينسو مؤسسات الدولة.  

واضح ان هناك تشكيك كبير عند القيادة الروسية في قدرتها على الحسم العسكري واكبر دليل على ذلك هو تصوير قتل الاطفال وقصف المستشفيات والاسواق ليس فقط على المستوى الاعلامي بل على المستوى العسكري والسياسي الرسمي على انه سقوط برلين. هذه المهزلة اتبعتها ايران والاسد من قبلها ولم تنجح ولن تكون روسيا اوفر حظا. تركيا والسعودية تدركان تماما ان ما تقوم به روسيا مجرد ارهاب لن يحقق اي مكاسب سياسية ولابد لروسيا من ان تستسلم على طاولة المفاوضات لكنها تعول على الدور الامريكي في الضغط على الاتراك والسعوديين من اجل القبول بروسيا شرطيا كما اقنعت الاروبيين بالتخلي عن السعي لتوفير بديل للنفط والغاز الروسي على ان تقوم روسيا باقناع ايران بضرورة التخلي عن الاسد والقبول بها كشرطي ايضا. هذا هو المعنى الحقيقي لسياسة القيادة من الخلف.

التعليقات (4)

    طلال

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    دول الخليج على رقعة الشطرنج بين أمريكا و روسيا

    ايمان

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    لكن ما الذي ادخل سوريا في الموضوع وما علاقة سوريا بالنفط

    ايمان

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    ما علاقة سوريا بالنفط الروسي

    الهاشمي

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    لعبتها امريكا صح على ما يبدو يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات