منذ بداية الثورة السورية، وحتى هذا اليوم، أي بعد مضي أقل من خمس سنوات خرجت علينا مصطلحات كبيرة وعميقة، إلا أن أكثرها استخداماً كان "الخط الأحمر"، سواء أكان في سياق التصريحات، أو ربما من تحت الطاولة، ولكن في كل هذه الاتجاهات نرى تفصيلاً واحداً يجمع بين هذه الخطوط الحمراء، وهي لعبة الخوف من تجاوز الخط الأحمر، وهو تجاوز أبعد من كونه ما يقال في التصريحات والتلميحات؛ هو خط أحمر سري في كل الأحوال، مرسوم ضمن سياسات الدول والجماعات، وربما يخالف إلى حد كبير ما هو معلن عنه!
مع بداية الثورة السورية، بدأ الخط الأحمر التركي، في حال حصول مجزرة في حماه أو في حمص، واعتبر رجب طيب أردوغان، الذي كان آنذاك رئيساً للوزراء في تركيا، في وقت كان فيه يحظى بأغلبية برلمانية، أن أي دخول أو هجوم من جيش النظام على هاتين المدينتين هو بمثابة خط أحمر، وأنّه لن يسمح به مطلقاً. غير أنّ جيش النظام اقتحم مدينة حماه في الأول من آب عام 2011، وقتل في اليوم الأول للاجتياح أكثر من مائة وخمسين شخصاً، واستطاع فرض سيطرته على المدينة إلى هذا اليوم، ولعلّ المزاج الدولي آنذاك منع رئيس الحكومة التركية من اتخاذ أي خطوة لا يسمح بها المجتمع الدولي، الذي أبدى رفضاً مطلقاً لأي جهود تركية من أجل دعم المعارضة، وأزيل الخط الأحمر!
أما أوباما الذي اعتبر أن أي استخدام للكيماوي في سوريا هو خط أحمر، وأنّه سوف يكون نهاية النظام، واعتبرت المعارضة السورية يومها هذه التصريحات على أنها إذن بالقتل، على ألا يستخدم الكيماوي المصنّف من أسلحة الدمار الشامل الذي استخدم كذريعة لاحتلال العراق، وبالتالي سوف يخشى من استخدامه، ولكنّه لن يتورع عن استخدام كل أنواع الأسلحة التقليدية. إلا أن النظام استطاع أن يستشفّ أن هذا الخط الأحمر يمكن أن يمحى، طالما أن إسرائيل بعيدة عن مرمى القصف الكيماوي، فاستخدمه في الفوطتين في 21 آب ،2013 وسقط على إثرها 1600 شهيد، في مجزرة مروّعة هزّت العالم يومها، وقرّر أوباما استخدام الوعيد عبر خطه الأحمر، إلا أن التدخل الروسي عبر مفاوضات تسليم الكيماوي، وجعل إسرائيل بعيدة عن مرمى السلاح المدمّر الذي قصف به الشعب السوري، أدّى إلى اختفاء الخط الأحمر، وعادت خطة ضرب النظام السوري وإسقاطه إلى خزانة تجميد القرارات، ذات الخط الأحمر..
لم تكن طهران بعيدة عن هذا المصطلح الذي بدا واضحاً أن النظام السوري يحبه جداً، عبر تصريح مستشار المرشد الأعلى لإيران (علي ولايتي)، أن بشار الأسد خط أحمر بالنسبة لإيران، ولا يمكن التخلي عنه أو استبعاده عن الحكم، بوصفه الرئيس الشرعي المنتخب من قبل الشعب السوري، الذي هو صاحب القرار في تحديد مصير، دون التنويه إلى من هم المعنيون لدى طهران؟ هل هم من "يدافع عن سوريا، لا من يحمل جنسيتها"؟ كما قال الأسد في آخر كلماته أمام مؤيديه؟ ولعل النظام السوري ومواليه أعجبوا بلعبة الخوف تلك، وبدؤوا يحذّرون من إسقاط مؤسسات الدولة - التي تعني الأجهزة الأمنية - أو إسقاط شرعية الحكومة التي تتمتع بتأييد شعبي؟
أما السيادة الوطنية المتحولة بين الحلفاء وحلفاء الحلفاء، فتلك أيضاَ خط أحمر، فنرى أن إسقاط طائرة روسية خرقت الأجواء التركية هو خرق للسيادة السورية، واعتداء سافر على الأجواء السورية، أما قصف الطيران الإسرائيلي لمواقع جيش النظام، أو قوات مليشيات حزب الله، أو مستودعات ذخيرة قد تستولي عليها المعارضة، خلال معارك كسر عظم بينها وبين قوات النظام، هذه لا تعتبر خرقاً للسيادة، لأنه هنالك تنسيق بين إسرائيل وحليف النظام "بوتين"، فحليف الحليف هو حليف بالضرورة، وليست هنالك أية خطوط حمراء، لأنه ينسّق مع "الدولة الشرعية"، أما وجود معارضة مسلّحة تقاتل النظام، هو إرهاب وخط أحمر عند الحليف الروسي، لأنّ أدبيات الروس تنصّ على أن كل من يطلق النار على القوات الشرعية هو إرهابي، بالمقابل وجود أكثر من خمسين فصيل طائفي يقاتلون باسم الحسين في سوريا هو عمل شرعي، لأنه ضمن إستراتيجية الدولة الشرعية التي تطلب العون من الحلفاء، حتى ولو كانوا مليشيات مجرمة !
أما أخطر أنواع الخطوط الحمراء، هي تلك التي رسمتها المعارضة السورية ضدّ بعضها البعض، ومن كل التيارات؛ هذه الخطوط الحمراء وصلت إلى حدّ التخوين، وقذف الشتائم بين تيارات المعارضة، وخلافهم حول مستقبل الأسد، أو تفسير النقاط الستة في بيان جنيف1، والمؤتمرات التي عقدت لتوحيد المعارضة، بكل أطيافها واتجاهاتها، بمعنى أنه على المعارضة التابعة للمملكة العربية السعودية أن تتفق مع المعارضة التابعة لتركيا، وعليهما الاتفاق مع المعارضة التابعة للولايات المتحدة، والجلوس على طاولة واحدة مع تلك التابعة لروسيا، وإصدار بيان موحد لتشكيل وفد معارض واحد مع من تبقى من معارضة الداخل، التابعين لمكتب علي مملوك ،كل ذلك من أجل التفاوض مع وفد بشار الأسد، حيث يعتبر بعض أطياف المعارضة أن رحيل الأسد خط أحمر، لأن وجوده في المرحلة الانتقالية هو حماية لمؤسسات الدولة من الانهيار!
الخطوط الحمراء أصبحت تحيط بنا من كل الاتجاهات في سوريا، وهو تعزيز للعبة الخوف، واستمرار للصراع المدمّر، والحرب التي لن تضع أوزارها، حيث أصيبت بعض وسائل الإعلام بذات المشكلة، وأصبحت تضع خطوطاً حمراء على قضايا عديدة كانت من المسلّمات، ولكنّ الثابت في كل ما جرى، خلال السنوات الخمس التي مرت بها الثورة السورية، أنه في السنة الأولى من عمر الثورة، كانت مساحة الحرية واسعة جداً وبلا حدود، وهو هدف الثورة التي قدمت مئات الآلاف من الشهداء، وملايين المشردين، ولكن ما حصل أنّه كلّما زاد عمر الثورة، تضاءلت هذه المساحة، حتى وصلت إلى ما يشبه المنفردة في أحد أقبية الاعتقال، ولا فرق بين هذه الأقبية، سواء أكانت أقبية النظام المجرم، أو أقبية بعض الفصائل العسكرية التي تريد فرض أجندتها على السوريين بقوة السلاح، أو المعارضة السياسية ومن ورائها وسائل إعلام تدين لها بالولاء، فكلّ طرف يعتقل على طريقته، وفاز ونجا من استطاع الإفلات من الخطوط الحمراء ..
التعليقات (0)