الوقاحة امتياز أمريكي

الوقاحة امتياز أمريكي

بحسب ما تطلبه إدارة أوباما، يتعين على المعارضين المجتمعين في مؤتمر الرياض اجتراح "صيغة خلاقة" تتعلق بمصير بشار الأسد. إدارة أوباما أيضاً لمحت إلى التعاون بين قوات بشار والفصائل المعارضة للحرب ضد داعش، من دون وجود حتى جدول زمني ينص على رحيل بشار، مكتفية بأن يكون لدى فصائل المعارضة قناعة برحيله يوماً ما، مع أن الصيغة الأمريكية لا تستخدم كلمة تنحي أو رحيل، بل تتحدث عن "شعور" باليقين لدى مقاتلي المعارضة بأن حلاً أو تسوية تلوح في الأفق. نعم، استخدم مسؤولو الإدارة تعبير "شعور"، وكأن الأمر لا يتعلق بصراع دموي، يا للرومانسية!

بالعودة إلى تعبير "الصيغة الخلاقة"، سبق للإدارة الأمريكية أن قدمت لنا نموذجاً عمّا هو خلاق بمفهومها يوم استخدم الأسد السلاح الكيماوي مرتكباً جريمة بحق السوريين والإنسانية. وقتها كانت الصيغة الخلاقة تنص على تسليم أداة الجريمة مقابل إعفاء المجرم من المثول أمام العدالة، واليوم في أحسن حالاتها لا ترى الإدارة مشكلة في قتل الأسد مئات آلاف السوريين، وتدعو إلى تعاون مقاتلي المعارضة مع قواته، أي تعاون الضحية مع الجلاد ووقف الصراع بينهما، فقط من أجل قتال داعش الذي لم يعد له أولوية مطلقة، وإنما باتت الإدارة لا ترى سبباً لقتال سواه، ومعلوم أنها لا ترى ذلك لتخليص السوريين من الإرهاب، ولا تقول أن السوريين هم أول من قاتل داعش قبل إعدامه جيمس فولي ومجيء طيران التحالف.

هي الوقاحة بامتياز، فإدارة أوباما لا تنكر على غرار بوتين ارتكاب الأسد مجازر أودت بحياة مئات الآلاف، ولا تنكر أن وجود بشار الأسد يعني تلقائياً عدم وجود مستقبل لسوريا. أوباما ومسؤولو إدارته كرروا هذه التصريحات قبل أيام لا قبل أشهر أو سنوات، ومع ذلك يطالبون المعارضة بأن تغض نظرها عن كل تلك الجرائم، وأن تمد يدها للمجرم فقط لأن طيران التحالف الدولي لا يستطيع بمفرده القضاء على داعش ويحتاج وقوداً بشرياً على الأرض. وإذا كان الجزء الأول من هذه الوقاحة الموصوفة، أخلاقياً وسياسياً، لا يرى غضاضة في التعاون مع مجرم مثل بشار فالجزء الثاني يضمر تحويل مقاتلي المعارضة أنفسهم إلى مجرد مرتزقة، إذ لا يخفى أن طي كافة مطالب الثورة والتعاون مع بشار يجرّد مقاتلي المعارضة والمعارضة برمتها من أية أحقية أخلاقية وسياسية، هذا إذا لم يجعل منها شريكاً أساسياً في جرائم الأسد أمام السوريين، إذ سيكون السؤال المطروح حينها: لماذا جرت التضحية بمئات آلاف الأرواح، فيما عدا الدمار والنزوح، إذا كانت كافة تلك التضحيات بلا ثمن؟

ما ينافي أدنى نباهة أن تروّج إدارة أوباما، وأن يكرر أكاذيبها محللون عرب وبعض المعارضين، مقولة بقاء الأسد حتى الآن بسبب الدعم الإيراني والروسي، فالحق أن كلمة السر في بقاء بشار أطلقتها الإدارة قبل الجميع، بتردادها دون كلل ألا حل في سوريا سوى الحل السياسي. لننسَ بعدها كل الترهات عن عدم رغبة الإدارة في التدخل المباشر، فهي قد تدخلت أولاً من خلال معارضتها إسقاط الأسد، وتدخلت باستمرار من خلال منع وصول أسلحة نوعية للمعارضة، والمقصود ليس فقط مضادات الطيران، لأن مضادات الدروع كانت إلى وقت قريب من ضمن الممنوعات، ولا زالت تأتي إلى فصائل المعارضة بكميات محسوبة بحيث لا تصنع فرقاً واضحاً في الميدان. المراهنة على تغير في أداء الإدارة أثبت فشله، مرات من قبل حلفاء أمريكا، ومرات من قبل معارضين أعفوا أنفسهم من أية مهمة باستثناء الركوب على الدعم الأمريكي المنتظر. مع ذلك، لم يعلن أحد من هؤلاء بصريح العبارة الإدارة الأمريكية كداعم أساسي نشط للنظام، سواء للنظام مع رأسه أو بدون رأسه.

آخر الأكاذيب هو التحدث عن مفاجأة بالتدخل الروسي، فعندما نتحدث عن قوة عظمى إما أن يكون هذا الكلام دجلاً بالمطلق، أو أن المخابرات الأمريكية تعاني تقصيراً أمنياً خطيراً يضعها تحت المساءلة. وبما أن الاحتمال الأخير لم يتحقق فالأول هو الأقرب إلى الواقع، أي أن التدخل الروسي أتى بمباركة أمريكية لا يفسّرها سوى الإسراع بعده إلى عقد مؤتمر فيينا بناءً عليه. هنا ستتأكد الوقاحة الأمريكية، التي سيتلقفها أيضاً حلفاء ومحللون، ومفادها الإسراع بالتسوية إنقاذاً للروس من تورطهم في سوريا! قلب الوقائع هذا امتياز أمريكي أيضاً، إذ يعتبر أن تقوية النظام هي المدخل للتسوية معه، أما المضمر فهو إضعاف خصوم النظام ليقبلوا بالتسوية المجحفة التي قررتها الإدارة بالتوافق مع بوتين، وبخلاف ما كان يريده حلفاء غربيون مثل فرنسا وبريطانيا.

للأمانة، تفضّل إدارة أوباما بقاء النظام بدون بشار، لكنها ليست مستعدة لبذل أدنى ضغط من أجل تنحيته. أما مسارعتها لفرض التسوية، بذريعة اقتناص اللحظة التي يوفرها التدخل الروسي، فهي سرعة تخص العوامل الداخلية، وتخص تحديداً الانتخابات الأمريكية القادمة التي لن يغيب عنها الملف السوري إذا لم يُلفّق له حل مستعجل. بالطبع، ليس حباً بالسوريين وإنما ربطاً بخطر داعش ستتعرض سياسة أوباما لانتقادات كثيرة في الموسم الانتخابي، بما فيها انتقادات المرشحة الديمقراطية الأوفر حظاً هيلاري كلينتون، ففي سجل الأخيرة مواقف متمايزة عن موقف أوباما منذ كانت وزيرة خارجيته، ولأنها أعلنت عنها في كتابها لن يحرجها أمام الجمهور الديمقراطي تكرارها ثانية. الأشهر السورية القادمة قد تكون الأسوأ، لا بسبب التدخل الروسي الذي تتفاقم وحشيته وإنما أيضاً بسبب الاستعجال الأمريكي لتسوية الملف السوري قبل الانتخابات، ولو اقتضت التسوية تسوية حقوق السوريين بالأرض.

بالطبع، الحديث هنا ليس عن مؤامرة أمريكية مستدامة على السوريين، وفي الأساس لم يكن هناك غموض أو كذب فيما خص سياسة أوباما في السنوات الثلاث الأخيرة على الأقل. طوال الوقت، وتدريجياً، كانت هذه الإدارة تعمل لصالح النظام، وتتحين الفرصة المناسبة للإعلان عن أنها لا تريد تغييراً حقيقياً في سوريا. الآن، مع الرضا الأمريكي عن التدخل الروسي، يبدو أيضاً أن تحويل سوريا إلى ساحة للجهاديين الشيعة والسنة قد انتهت وظيفته، بعد أن هدد هذا الصراع بانتشار الإرهاب إقليمياً ودولياً؛ ذلك واحد من دواعي خشية إدارة أوباما أمام الرأي العام الأمريكي.

رغم كل ما سبق، إدارة أوباما ليست في وضع يمكنها من فرض إملاءاتها على المعارضة، ومن خلفها داعميها الإقليميين، وليس لدى الإدارة استثمارات فعلية في الميدان السوري تدافع عن سياساتها، إن لم نقل أن واحداً مما يدفع إلى وصم طلباتها بالوقاحة هو كونها لم تسلّف السوريين ما يضعها في موقع الناصح أو المطالِب. مع الأسف، كان أسوأ ما حدث في مؤتمر الرياض "قبل انعقاده" توسعة قائمة المدعوين، ما يتيح اختراقها من قبل شخصيات تلتقي مع التفاهم الأمريكي الروسي، شخصيات متلهفة أصلاً لتجاهل تنحي الأسد في التسوية المقبلة، الأمر الذي تنبغي مواجهته ولو لم يحقق المؤتمر الإجماع المنشود. في حالتنا اليوم تصدق مقولة أن التاريخ قد يعيد نفسه على شكل مهزلة، فيما لو حقق المجتمعون المطالب الأمريكية، ففي التاريخ القريب اجتمعت المعارضة العراقية عشية الإطاحة بصدام حسين، ووُصمت من قبل منتقديها بالقدوم على ظهر الدبابة الأمريكية. ما يطلبه المسؤولون الأمريكيون من المعارضة السورية اليوم هو اعتلاء دبابة روسية لا أمريكية، دبابة تقلهم بعيداً جداً عن قصر المهاجرين الذي بات يستحق اسمه أيضاً من تهجير ملايين السوريين. 

التعليقات (3)

    سامي الصوفي - واشنطن

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    المقالة حلوة و الخاتمة أحلى يا عمر. سلمت يداك!

    مواطن بسيط

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    وهناك وقاحة اشد ان يدعون الى عقد المؤتمرات وطائراتهم ترتكب المجزرةتلوالاخرى

    ايجل

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    الواضح والذي لا لبس فيه أن الادارة الاميركية ومنذ بداية الثورة السورية تأخذ بتوصيات ونصائح الكيان الاسرائيلي عما ينبغي فعله ازاء المنطقة ،،، والهدف الاول والاخير هو اطالة أمد واستمرار القتال بغية الحاق أكبر ما يمكن من التدمير لسورية
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات