الرفض الروسي صاحبه تصعيد على الساحة السورية، تمثلت بغارات على بلدات ريف ادلب القريبة من الحدود التركية، فيما يبدو وكأنه استكمال لنهج بقصف المدنيين وفصائل الجيش الحر في عموم سوريا، لكن يأتي هذه المرة أكثر عنفا وكثافة بعد إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية، كما بدا متركزا على قرى وبلدات الشريط الحدودي، كرد على السلوك التركي، وإجهاض متعمد لأي عمل من شأنه أن يؤدي لإنشاء منطقة أمنة كانت تركيا بشرت بها في وقت سابق وبقيت (كلاماً).
الغارات الروسية المتزايدة، والتعنّت تجاه تركيا رغم الليونة الكبيرة التي أبدتها أنقرة، التي سلمت جثة الطيار التي كانت بحوزة فصائل من الثوار، دفع محللين عسكريين إلى افتراض "سيناريو مفترض"- بأن روسيا هي من أوقعت تركيا وحلفاءها في كمين "الاسقاط"، من خلال استفزازها على الحدود بالقصف العنيف على جبل التركمان واختراق الحدود أكثر من مرة- لا يمكن تبني هذه الرؤية لكن الثابت والحقيقي أن الغارات الروسية التي أحصيت إلى الآن بلغ عددها 3185 منها 88 غارة فقط ضد مواقع لتنظيم الدولة.
الكمين له تجلٍ سياسي بدأ يتبلور في الساعات الأخيرة التي تشهد انقلابا روسيا – إيرانيا على بيان فيينا الذي تم التوافق عليه دولياً كصيغة حل "نهائي" للملف السوري، والبيان تم قبوله من كل الأطراف بما في ذلك تركيا ومعها السعودية، اللتان كانتا تصران على شرط رحيل الأسد كفاتحة أي حل، ورغم القبول بالعملية السياسية المفترضة لمدة 18 شهراً تنتهي بانتخابات ترعاها الأمم المتحدة، ويسبق ذلك حكومة وحدة وطنية تدير المرحلة، وتعد دستورا جديدا للبلاد، إلا أن إسقاط المقاتلة الروسية وما تلاه غيّر كل المفاهيم، بيد أن عودة للأمس القريب تكشف سبق الإصرار، فبناء روسيا ومعها الدوائر الرسمية والإعلامية التابعة والمحسوبة على نظام الأسد على ما وصف بتلميح وزير خارجية فرنسا، لوران فابيوس، إلى إمكانية الاستعانة بجيش الأسد في قتال تنظيم الدولة، كان إعدادا واضحا للانقلاب لنشهد بعده تغير في الموقف الروسي من موافق على خريطة طريق فيينا (مع عدم الموافقة على رحيل الأسد) إلى رافض للمشروع برمته، مع عودة ارتدادية للتمترس في خندق بشار الأسد، وتبني موقفه حرفيا، تمثل ذلك في تصريحات للناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف عن أن أي حديث عن إجراء انتخابات في سورية أو حتى دفع التسوية السياسية يبدو غير واقعي في ظل سيطرة "المنظمات الإرهابية" على جزء كبير من الأراضي السورية، وبذلك يتقاطع مع الأسد الذي ربط أي حل السياسي، "بتحرير البلاد من الإرهاب" حسب تعبيره. ديمتري بيسكوف أعاد تذكرينا بأن بعض البلدان (بالإشارة لفرنسا) بدأت يتراجع عما وصفها بـ "المواقف غير الواقعية المتعلقة بضرورة رحيل الرئيس الأسد.".
وفيما شدد بيسكوف على أن العلاقات مع تركيا لا يمكن أن تعود لسابق عهدها بسهولة، كان بشار الأسد منسجماً مع ذلك تماما حيث قال خلال استقبال علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني خامنئي، في دمشق، إنه وحلفاءه مصممون على محاربة "الإرهاب"، رغم ما وصفه بـ"التصعيد الأخير من قبل بعض الدول المعادية"، التي اتهمها بـ"تقديم المال والسلاح للعصابات الإرهابية"، على حد تعبيره، بإشارة إلى إسقاط تركيا للطائرة الروسية.
الأسد إذاً استقبل ولايتي في زمن الانقلاب، ليعيد تأكيد موقفه من بيان فيينا، لكن هذه المرة مع دعم روسي علني بأن العمليات العسكرية والحرب على الثوار وفصائل الجيش الحر، يجب أن تسبق أي شروع بحل سياسي، وهذا بلا شك ما يتوافق أصلا مع الرؤية الإيرانية، وفي هذا الشأن قال على أكبر ولايتي من دمشق "إن إيران وخامنئي يدعمون الدولة السورية والرئيس السوري."، ونقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا) قول ولايتي " إن سبب زيارته هي تهنئة بشار الأسد على استمرار انتصار القوات السورية على أعداء الأمة السورية والحكومة."
بذلك يكتمل المشهد، روسيا اللاعب الدولي الذي نجح في خطف الملف السوري برمته قبل أشهر، عسكريا وسياسيا، بدأ يتنصل من بيان فيينا، الذي كان يعتبر رغم الكثير من التحفظات، عليه أساسا جديدا يمكن أن يبنى عليه، وإن كان محور النقاش بعد البيان هو مصير بشار الأسد ورحيله وترشحه وعدم ترشحه، فالآن تبدو روسيا وإيران ومن تجران خلفهما من مواقف في صف الأسد، يقولون للعالم "كلنا بشار الأسد" وتسقط فيينا 1-2-3 وعلينا أولا محاربة "الإرهاب"، فأي سيناريو جديد ينتظر الشعب السوري وداعميه، وما هو موقف الداعمين الحقيقي بعد أن أصبحت المنطقة الآمنة ملغية أو قيد التأجيل على الأقل، وبعد أن أصبح بيان فيينا بديل بيانات جنيف في مهب الريح.
التعليقات (9)