الصفعة التي أيقظت القيصر

الصفعة التي أيقظت القيصر
خمس دقائق وعشرة تحذيرات تلاها صاروخ جو-جو من طراز سايد ويندر هي كل ما احتاجه الأتراك كي يقلبوا الأمور رأسا على عقب، ويجعلوا العالم يقف على قدم واحدة بانتظار تداعيات حدث ربما يكون الصاعق الذي سيفجر برميل البارود.

إسقاط طائرة السوخوي إم24 فخر الصناعة الروسية المزودة بتقنيات عالية، والتي لم يُصَدَر منها أي طائرات خارج روسيا مثل صفعة مدوية تردد صداها في أرجاء المعمورة، فقد شاهد العالم كله كيف هوت السوخوي محترقة كقطعة خردة لاحول لها ولا قوة، حتى إن المرء ليتساءل عن الإمكانيات الدفاعية لهذه الطائرة المتطورة التي لم تستطع تفادي الصاروخ التركي، لتفشل في أول مواجهة جوية ضد طائرة أمريكية تعتبر قديمة نسبيا بالمقارنة مع الأجيال الحديثة من الطائرات الغربية وحتى الروسية.

الصدمة الروسية تمثلت في أمرين: الأول هو قرار المواجهة التركي الجريء بالاشتباك مع الطائرات الروسية التي خرقت المجال الجوي التركي، أما الأمر الثاني فتمثل في السهولة التي أسقطت بها الطائرة الروسية، وهو ما انعكس على حالة الرئيس الروسي بوتين الذي ظهر واجماً وقد بدت عليه آثار الصدمة.

لم يكن يدور بخلد الرئيس المتعجرف بوتين أن تركيا قد تنفذ تهديدها بالتصدي لأي مقاتلة روسية تقوم بخرق المجال الجوي التركي، إذ وبعد سلسلة خروقات جوية واجهتها تركيا بسياسة ضبط النفس والإحتجاج الرسمي عدة مرات لدى روسيا، إستمر الروس في ممارسة سياسة الإستفزاز تجاه تركيا وذلك من خلال قصف مناطق التركمان في ريف اللاذقية والذين تعتبرهم تركيا جزء من مسؤوليتها القومية، لتتوج سلسلة الإستفزازات بخرق جوي جديد للأراضي التركية، التي ما عاد بإمكان حكومتها السكوت على الإستفزاز الروسي المتكرر.

روسيا التي يحكمها دكتاتور أرعن كرس نفسه كحاكم أوحد لم تترك لتركيا من خيار سوى الرد، فقد عربدت في سورية والمنطقة ضاربة كافة المواثيق الدولية والإنسانية بعرض الحائط، فقصفت وقتلت ولم توفر هدفا ًمدنياً أو عسكرياً إلا واستهدفته طائراتها وصواريخها حتى المشافي والمساجد والأسواق لم تسلم من همجية الروس الذين ظنوا أن بإمكانهم إخضاع الجميع بما فيهم تركيا، التي وعلى ما يبدو أنها قد حسمت أمرها بالتصدي للعربدة الروسية، أقله فيما يتعلق بسيادتها وأمنها الوطني والقومي.

تركيا وبعد إسقاطها الطائرة الروسية طلبت إجتماعا لحلف شمال الأطلسي الذي كانت أحد مؤسسيه، وهو ما سيمثل إختبارا حقيقيا للحلف، خاصة في هذه المرحلة التي يبدوا فيها الجميع وكأنهم يسيرون على رمال متحركة، فطبيعة التحالفات في تغير مستمر وتبعا للتطورات الميدانية، وهو ما جعل من روسيا حليفا إستراتيجا للغرب بعد أن كانت عدوهم اللدود لعقود.

في أول الردود الغربية على حادثة إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية عبر كل من الرئيسين الأمريكي أوباما والفرنسي هولاند عن دعمهما لحق تركيا في الدفاع عن نفسها، فيما دعا الإتحاد الأوروبي كل من تركيا وروسيا إلى ضبط النفس وحل المشاكل بالطرق السلمية، أما حلف الناتو فقد أعرب عن دعمه لتركيا وحقها في الدفاع عن نفسها مع مطالبته لها بضبط النفس، من هنا فإن جملة هذه التصريحات الأولية يمكن أن تشكل موقفا ضاغطا على موسكو لجهة عدم التصعيد.

بوتين وفي أول رد له على الحادثة صرح وخلال اجتماعه بملك الأردن أن إسقاط الطائرة الروسية يعتبر طعنة في الظهر ممن يدعمون الإرهاب ولن نسكت عنه في إشارة واضحة لتركيا التي اتهمها بتسهيل تجارة النفط مع تنظيم الدولة الإسلامية، حيث ترك هذا التصريح الباب مفتوحا على كافة الاحتمالات بما فيها التصعيد العسكري مع تركيا.

رد روسيا الأولي على الحادثة بدأ بتجميد العلاقات العسكرية مع تركيا وإلغاء زيارة لوزير الخارجية لافروف إلى أنقرة، تلاه تحذير للمواطنين الروس من السفر إلى تركيا بحجة وجود خطر إرهاب، وهو ما يعطي إشارة على نية روسيا في التصعيد المحتمل للأزمة بين البلدين، فعقلية بوتين والطريقة المتعالية التي يتعامل بها مع الآخرين تشي بأنه لن يسكت على الصفعة العثمانية وسيعمل جاهداً على ردها لعدة أسباب أقلها رد الاعتبار للصناعة الحربية الروسية التي أذلها إسقاط الأتراك لإحدى أحدث طائراتها وخلال خمسة دقائق، وهو بلا أدنى شك لن يوفر فرصة رد الاعتبار لنفسه قبل روسيا.

حتى مع وجود المصالح الاقتصادية الكبيرة بينهما، فقد أسس إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية لمرحلة جديدة من العداء التاريخي بين البلدين، وهو ما وضع بوتين بين مطرقة المصالح الاقتصادية لروسيا وسندان الكرامة العسكرية المهدورة، وبالتالي فإن هاجس رد الإعتبار قد يدفع بوتين لاستغلال الفرصة والمضي قدما في سياساته الرعناء وتوريط روسيا والمنطقة في مزيد من الأزمات، ما قد يجر المنطقة والعالم إلى حرب كونية جديدة لا تبقي ولا تذر.

الرد الروسي سيعتمد بالدرجة الأولى على أحد قرارين إما إحتواء الأزمة وتلافي تكرارها مستقبلا أو الرغبة في التصعيد الذي قد يتخذ عدة أشكال أحدها إستخدام منظومة صواريخ إس 400 التي أعلن قبل أسابيع قليلة عن وجودها في قاعدة حميميم في اللاذقية لإسقاط إحدى الطائرات التركية، أو محاولة جرّ تركيا إلى مواجهة جوية محدودة يحاول فيها الروس إستعادة ماء وجههم، لكن في كلا الحالتين سيبقى هذا الأمر محفوفا بالمخاطر لأنه قد يجر البلدين إلى ما هو أكبر بكثير من مجرد مواجهة جوية.

إن أكثر ما تخشاه تركيا اليوم هو قيام روسيا بمحاولة ضرب أمنها الداخلي عن طريق إثارة الفتن العرقية والمذهبية أو القيام بسلسلة حوادث وتفجيرات تزعزع الإستقرار النسبي الذي تعيشه تركيا وتكافح من أجل الحفاظ عليه رغم الوضع المتفجر في المنطقة، إضافة إلى سعي الكرد لإنشاء دولة أو إقليم في شمال سورية مستفيدين من الدعم اللامحدود الذي يتلقونه من نظام الأسد وإيران والولايات المتحدة وباقي الأطراف المستفيدة من زعزعة إستقرار تركيا وبحجة محاربة الإرهاب.

أياً كان الرد الذي يفكر فيه الروس فإن الحقيقة الثابتة هي أن هذه الحادثة قد مثلت صفعة أيقظت القيصر الروسي من غفلته وأعادته إلى واقع لا يمكن الهروب من إستحقاقاته التي ترتبت على الرعونة والعنجهية التي تعاملت بها روسيا مع شعوب المنطقة، وعليه فإن روسيا تستطيع إرباك تركيا داخليا من خلال التسبب لها بسلسلة من الأزمات، لكنها وفي المقابل تعلم جيدا أن يد الأتراك طويلة وقادرة على خلط الأوراق في وجه بوتين وفي أكثر من مكان حتى داخل روسيا نفسها.

 لقد سمح العالم للأسد أن يحرق سوريا، شعبا ووطنا، وسيأتي الوقت الذي يكتوي فيه الجميع بنفس النار التي أحرقت السوريين.

التعليقات (10)

    Alach

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    Ansah ardogan an la yakon âla fawhat borkan fa lkofr millat wahida kama qal alrasol

    الشاعر

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    القيصر صار قزما... أمام العملاق أردوغان......تركيا ...نداء للروسيا... هل من مزيد..

    أبو أحمد

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    بالأمس كان هناك تحدي تركي جديد للروس عندما تحدث الرئيس أردوغان عن النية القريبة لإقامة منطقة أمنة تمتد من جرابلس إلى البحر المتوسط وليس إلى مارع فقط, فهذا الشريط في منطقة الساحل سوف يكون منطقة احتكاك مع الروس ولننظر كيف ستطور الأمور

    سامح

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    مقال مميز كالعادة استاذ سلنت يداك

    ابو ابراهيم

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    كاتب فاشل ، موقف اورينت معروف ومشهور ، مع هيك كاتب هبوط

    اللهم رحمتك أرجو

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    هذه الحادثة ستكون شرارة الحرب العالمية الثالثة

    لمار الأحمد

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    هذه المواجهة متوقعة منذ بداية الاحتلال الروسي لسورية

    ابو مالك الحوراني

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    انت دوما تعلق بنفس التعليق وواضح لديك خلاف شخصي مع الكاتب بدليل انك لا تناقش افكاره بل شخصه و اليوم انت تتحدث باسم الاورينت. السؤال الحقيقي كيف ينشر موقع مرموق مثل الاورينت تعليقا تافها لشخص تافه مثلك

    أبو معتز الدوماني

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    تركيا وروسيا خاسرتان من أي تصعيد للصراع وسيحاولان لفلفة القضية, لكنني أعتقد ان بوتين لن يهدأ قبل أن يرد الصفعة للسلطان أردوغان

    الدكتور احمد الاسماعيل

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    ان حاول القيصر الجديد خلط اي اوراق اخرى ستكون بمثابة الشرارة الاولى لنهاية روسيا الاتحادية كما كانت نهاية الاتحاد السوفيتي
10

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات