ليالي الأنس في فيينا

ليالي الأنس في فيينا

كُتب الكثير عن استدعاء بشار الأسد إلى موسكو، وجلوسه كالولد الذي يتلقى توبيخاً من معلّمه، وبناء على ذلك كُتب الكثير أيضاً عن تصوّر روسي للتسوية، يتضمّن التضحية ببشار، الأمر الذي لن يجرؤ ذلك الولد الصاغر على معارضته. ما يقوله الروس أنفسهم عن اللقاء، بمن فيهم بوتين، ليس مبشّراً على هذا النحو، ويضع الخلاف بين الحليفين في إطاره الصحيح، والمتواضع في آن.

الخلاف بين موسكو وبشار بدأ يظهر منذ عقد جلسة مفاوضات "موسكو1"، بين النظام وما سُمّي بالمعارضة الوطنية، حينها خذل النظام حليفه الروسي، وأيضاً ما يُفترض أنها معارضته "المحببة"، بعدم تقديم أي تنازل وعدم إبداء أية مرونة على الإطلاق، ما دفع المسؤولين الروس إلى وصفها آنذاك بالمشاورات بدل المفاوضات. في جولة "موسكو2" كانت المهزلة أكبر، فمن حضروا من "المعارضة" يمكن وصفهم بأنهم أكثر حرصاً بالمعنى السياسي على النظام من النظام نفسه، وهم يشاركون موسكو الرؤية التي تنصّ على تجميل النظام لضمان استمراره. منطق العصابة الحاكمة بقي على حاله، وهو عدم تقديم أدنى تنازل لأن طبيعة المافيا الحاكمة لا تسمح لها أن تحكم بالسياسة أصلاً، ولأنها رفضت مبدأ المشاركة الذي طالب به السوريون مع اندلاع الثورة.

إذاً، قبل اجتماع فيينا الرباعي أتى استدعاء بشار فقط ليكرّر مُرغماً الجملة التي أذاعها الروس، والتي يشير فيها إلى عملية سياسية تلي العملية العسكرية، ليأخذ لافروف هذا الإقرار معه إلى فيينا. أما تفاصيل العملية السياسية فينبغي أن نفهم، بحسب الادّعاء الروسي، أن النظام لا حيلة له في التحكم فيه، وأنه مُغيّب عن الاتفاق عليها. لكن، لئلا نستبشر بتغييب النظام، السوريون أيضاً مُغيّبون عن اجتماع فيينا، وتغيب معهم سلّة من القضايا ستكون كفيلة بإفشال أية تسوية لا تأخذها بالاعتبار.

الأخبار الواردة من فيينا تروّج الخلاف حول نقطتين، مدة المرحلة الانتقالية التي صار مرجّحاً أن تتشكّل فيها حكومة "وحدة وطنية" بدل الهيئة الانتقالية، وموعد رحيل بشار عن السلطة بعدما أبدى "أصدقاء الشعب السوري" مرونة قبول بقائه لمدة محدودة. المدة المقترحة للمرحلة الانتقالية هي سنة ونصف على أبعد تقدير، ينبغي في نهايتها إجراء انتخابات رئاسية، بعد أن تسبقها أخرى تشريعية، والروس يناورون على أحقية بشار بالترشّح فيها تحت بند أن السوريين هم من يقرّرون مصيره، الأهم أن مناورتهم تضمر بقاءه طوال المرحلة الانتقالية، ولو بصلاحيات بروتوكولية كما يقال، بينما صار واضحاً أن تركيا والسعودية تقبلان ببقائه ستة أشهر، أما الإدارة الأمريكية فيصعب التكهّن بموقفها النهائي، مع الانتباه إلى استعدادها للتنازل على هذا الصعيد.

من وجهة نظر المجتمعين في فيينا، الهوّة بينهم ليست كبيرة ويمكن ردمها، على الأرجح بتسوية تُبقي رأس النظام طوال المرحلة الانتقالية مع حرمانه من الترشّح في نهايتها. وعلى رغم ما في مبدأ التسوية هذا من إجحاف، بل على رغم ما فيه من انحطاط منح شرعية لمجرم حرب وما يتضمّنه من إعطائه حصانة قد تمنع محاكمته لاحقاً، إلا أن هذا لا يمكن عدّه النقيصة الوحيدة. فالتسوية المقترحة في أحد جوانبها تتجاهل كلياً مسألة إصلاح المؤسستين العسكرية والأمنية، وتتحدث فقط عن اندماج بين قوات النظام وما تبقّى من فصائل الجيش الحرّ لمحاربة الإرهاب. الأنكى من ذلك، أن الروس يعملون في هذه الأثناء على دمج ميليشيات "الدفاع الوطني" ضمن ما يُسمّى الجيش، وكما نعلم ساهمت هذه الميليشيات بشكل حثيث في مختلف الجرائم المرتكبة في حق السوريين، من الإبادة إلى التعفيش، وإذا جاز إعطاء مبرّر لجرائم القوات النظامية بحجة إلزامية التجنيد واستحالة معارضة الأوامر العسكرية فإن المبرر ذاته يسقط تماماً عن ميليشيا من المتطوّعين أساساً على أرضية قتل السوريين وتعفيش ممتلكاتهم. على الصعيد العددي البحت، ضمُّ تلك الميليشيات يعني تحقيق الغلبة للنظام في الجيش القادم المقترح، ويعني إفساده على نحو لم يكن بهذا الفجور من قبل.

المسألة الأخرى التي تهملها كلياً الأخبار القادمة من "ليالي فيينا"، هي مسألة اللاجئين، وما تستتبعه من أعباء. إذ يصعب مثلاً تصوّر عودة النازحين خلال مدة السنة والنصف المقترحة للمرحلة الانتقالية، وهي عودة لا يمكن أن تكون تلقائية، بلا ضمانات وحماية دوليتين، بخاصة أن التسوية المقترحة لا يبدو أنها ستكون بإشراف وحماية الأمم المتحدة، وأغلب الظن أن تفاصيلها ستبقى لاحقاً بين شدّ وجذب من الأطراف الموقّعة عليها، والتي ستبقي بعض نقاط الخلاف العالقة إلى مرحلة التنفيذ. ثم إننا، بحسب التصوّر نفسه عن مكافحة الإرهاب، لا نتوقع عودة سريعة للنازحين إلى مناطق سيطرة "داعش"، ولا نتوقع أيضاً إعادة إعمار سريعة تسمح لملايين الأسر التي دُمّرت ممتلكاتها بالعودة، بخاصة لأن إعادة الإعمار ستكون مرتبطة بتنفيذ الاتفاق، ويُستبعد أن تُقدِم السعودية وقطر على تمويلها منذ اللحظة الأولى للمرحلة الانتقالية.

الحديث عن اللاجئين، كما هو معلوم، يتضمن حوالي ثلث السكان الذين، في أحسن حالات التسوية، لن تُتاح لهم العودة إلى مدنهم وقراهم وممارسة حقوقهم الانتخابية منها. ولئن حدث في تجارب سابقة أن أُجريت انتخابات خارج البلدان، وحتى في مخيمات النزوح، فإن ذلك لا يصحّ في الانتخابات البرلمانية ذات التمثيل المناطقي، ولا نعلم كيف سيمارس المرشحون دعاياتهم الانتخابية بينما ينتشر ناخبو منطقتهم حول العالم! بالأحرى سيكون الأمر حينئذ شبيهاً بما دعا إليه أحد مثقفي النظام "أدونيس" من على منبر إعلامي ألماني، عندما دعا إلى إجراء انتخابات ديمقراطية لمن تبقى من السوريين في الداخل.

قد يأتي تبرير هذه النواقص بأن أية تسوية، مهما كانت منصفة، ستواجه المعضلة نفسها، وأن قطار الحل ينبغي ألا يتوقف عند لاجئين قد لا يعودون، وقد يأتي بعض الانتقادات من منطق أن السوريين تعبوا ودفعوا ثمناً باهظاً ويستحقون هدنة لالتقاط الأنفاس. في الردّ على الانتقادات، نعم، يستحق السوريون ما هو أكثر من الهدنة، يستحقون تسوية تملك فرصة الديمومة بعد الثمن الباهظ الذي أُجبروا على دفعه، وأقل ما يستحقونه طي صفحة الماضي بحيث لا تقرّر رؤوس الإجرام مستقبلهم، لذا سيكون واحداً من أهم الاستحقاقات إعادة هيكلة الجيش والمؤسسات الأمنية على أرضية حماية السوريين، وأيضاً النظر إلى محاربة الإرهاب كمسؤولية دولية وإقليمية لا يُسخّر السوريون وحدهم فيها. وفيما خصّ ملف النازحين ينبغي وضعه تحت إشراف دولي ذي مصداقية، لأن قسماً ضخماً من عمليات التهجير جرى وفق مخطط ممنهج لسلب النازحين حقوقهم في ممتلكاتهم وتالياً حقهم في العودة، وفي التفاصيل جرى على نطاق واسع تدمير سندات ملكية وسجلات عقارية، كما جرى تمليك أراض واسعة ومنشآت للإيرانيين.

ما نراه حتى الآن أنه، بدل التطرّق إلى المعضلات الحقيقية ومشاركة أصحابها، تجري المساومة على مَن من القوى الدولية أو الإقليمية ينبغي أن يشارك في جولة فيينا القادمة، وإذا كان طرح حضور إيران مفهوماً لجهة قدرتها على عرقلة التسوية، فالطامة فيما يشبه اتفاقاً على حضور مصر السيسي؛ كأن "ليالي الأنس في فيينا" لا ينقصها سوى مشاركة مهرّج من الوزن الرخيص.   

 

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات