قرأ السوريون الصور التي أخرجها الكرملين عن استدعاء/ زيارة بشار أسد الأخيرة لبوتين، أثارت لديهم تضارباً في التحليل، مع مشاعر الخيبة والاستغراب، ربما لأنهم اكتشفوا الحقيقة بلا رتوش على يد بوتين الذي عرفه العالم كشخصية مافيوية! إذ انتبهوا أن الجلسة كانت أقرب لجلسة رئيس مافيا عظمى مع مقاول مافيوي صغير! والتي بدورها تناقضت مع كم الشعارات الهائلة التي زرعها أسد الأب والولد في أذهان السوريين عن دور سوريا "العظيم" عالميا بقيادتهم؟!
بوتين بهذا الخرق الدبلوماسي أرسل من خلال الصور رسالة لا لبس فيها بأن مصير أسد والعلويين في سوريا تقرره موسكو وليس طهران/قم كما ظن البعض، صورة أزال منها كل الرتوش عندما أصر أن لا يظهر أسد كحاكم دولة، إذ كان وحيدا لا يظهر حوله، على الأقل، مستشار سياسي أو عسكري يستشيره في القضايا المطروحة، وكذلك غياب علم نظامه عن الجلسة!
أما الحوار نفسه فقد أثار التكهنات والتحليلات معظمها خضعت لأمنيات السوريين كل حسب موقعه من الأحداث، لكن مما أعرفه من معلومات عن الفترة التي سبقته أعتقد أن بوتين طلب من أسد أن يتهيأ لجلسات حوار مع المعارضة السورية غير المصنفة إرهابية أو راديكالية إسلامية، وخلال ستة أشهر يجب أن ينتهي الحوار بتشكيل حكومة وحدة وطنية كما يصر إعلام أسد، أو حكومة انتقالية كما تطلب المعارضة، الاختلاف بالتسمية هنا غير مهم! لكن أسد كرر ما يقوله دائما بأنه لا يمكن التفاهم مع المعارضة السورية قبل القضاء على الإرهاب، بوتين لم ولن يقبل بهذا الادعاء، فحاول أسد أن يطلب أن تكون الحكومة مشكلة من معارضة "تحت سقف الوطن"، وليست من معارضة الخارج التي يتهمها بأنها طالبت بالتدخل العسكري الخارجي للإطاحة به، لكن بوتين يرفض ويصر على أن تكون الحكومة الانتقالية تحوي بعضا من معارضة الخارج وممن ترضى عنهم السعودية وتركيا والأردن، وهذا ما فسره اتصاله بحكام هذه البلاد فور انتهاء الزيارة. لأن هدف بوتين الأساسي من كل هذا الاستدعاء تسويق وبيع عملية سياسية لهذه الدول، تغطي الوجود العسكري الروسي المدفوع الأجر سلفا، لأن الخزينة الروسية لا تحتمل تكاليف العمل العسكري الروسي في سوريا، وبوتين ليس كأسلافه السوفييت يفكر في مصالح روسيا العظمى، وانما أولويته لمصالح المافيا التي تحكم تحت قيادته!
بالتأكيد مجرد ترتيب زيارة أسد لموسكو وعودته إلى دمشق أكبر ضمانة روسية مستقبلية قدمها بوتين لبشار أسد وللعلويين أيضا!
يبقى أن الايراني هو الخاسر الوحيد في هذه المعادلة، وهذا مطلب دول الجوار السوري، بمن فيها دول الخليج، لاحظوا كيف تتم تصفية المستشاريين الإيرانيين منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا، وكيف يتم إضعاف وتقويض الدور والنفوذ السياسي الإيراني أيضا|ً. وهناك خلافات كبرى يحاول الطرفان أن لا تطفو على السطح، فالتدخل العسكري الروسي المفاجئ، الذي أعتقد أنه جاء أمراً واقعاً أكثر منه تنسيقاً مع الإيراني ومع بشار أسد، والذي يلاحظ أنه منذ اللحظات الأولى لوجوده بدأ يأكل من نفوذ أسد/ العلويين والإيرانيين على السواء، ولن يكون له تأثير مهم على المناطق السنية الداخلية التي بيد الثوار وإن كان سيرهقهم! لكني لا أعتقد أن الايراني الصبور والعنيد واللاعب السياسي الشرير، والذي بدأ مؤخرا، بعد خمس سنوات من تدخله في سوريا، ينشر خسائره في سوريا، ربما لإفهام الآخر أنه لن يقبل بأن يخرج من الملعب خاوي الوفاض! لذلك أتوقع أنه سيقلب طاولة الشطرنج السورية الحالية بنقلة تشكل حدثا جللا عمّا قريب.
التدخل الروسي حدث بناء على رغبة حلفاء مهمين للمعارضة السورية، لذلك وتبريرا وتخفيفا من حدة هذا التدخل في الذهنية السورية الحالية، وكي لا يخجل "حلفاء" المعارضة السورية منه، لعبوا لعبة صواريخ التاو، والتي بدورها خدمت غرضا آخر حيث أخرجت قوات أسد من تحصيناتها، ودمرت كثيرا من أسلحتها الثقيلة. لذلك أعتقد أنها ستختفي عمّا قريب، فالأطراف المسلحة، قوات أسد وميليشيات إيران وقوى المعارضة، يجب أن ترهق وتكون جاهزة للقبول بالسيناريو. لكثرة وغرابة التناقضات على الأرض السورية لاقى التدخل الروسي ارتياحا كبيرا أيضا لدى الطائفة العلوية المؤيدة لأسد!
الدردري أبرز المرشحين لرئاستها
لكن ما الذي نتوقع أن نراه خلال الستة أشهر القادمة التي طلبها بوتين ووافق عليها التركي ويعمل لها الخليجي أيضا؟! ببساطة ستتشكل حكومة الكيلومتر الواحد، حكومة ما بات يعرف بالمنطقة الخضراء، فالأمريكي يتشبث بهذا النوع من الحكومات حاليا، وطبقها فعليا في كابول وفي بغداد ويحاول في ليبيا وصنعاء ودمشق، لاعتقاده أنها قلب الدولة يجب أن يبقى نابضا إلى يوم يراه مناسبا لضخ الدماء للأطراف و إعادة إنتاج الدولة مرة أخرى، الحقيقة لست متأكدا من جدوى هذه الحالة، على الأقل مرت نحو 15 سنة على عدم جدواها!
إذا ستتشكل حكومة المربع الأخضر في دمشق! المرشح الأبرز لرئاستها عبد الله الدردري، نائب رئيس مجلس الوزراء في حكومة أسد قبل الثورة، وهو شخصية ضليعة بالتعامل مع المجتمع الدولي فقد شغل مناصب عدة في عدد من هيئات الأمم المتحدة، والذي انتقل من دمشق للعيش في بيروت منذ عدة سنوات، تعلّم خلالها كيف يتناغم ويرضي حزب الله والنفوذ الإيراني، قام بعدة زيارات سرية لإيران خلال فترات متقاربة هذا العام وقبله. وستضم الحكومة أيضا، "الجنرال" مناف طلاس بمهمة إعادة بناء الجيش السوري، وكأن سوريا التي اشتهرت بفساد حكمها، وفساد جيشها ضم في قياداته جنرالات ديغولية(!؟) كما ستضم أيضا قدري جميل، وبعض وجوه تيار قمح، ربما رجل الأعمال خالد المحاميد ممثلا عن حوران أيضا، وستضم الحكومة عدة شخصيات من هيئة التنسيق معظمها أقليات، وكذلك شخصيتين أو ثلاثة من الائتلاف مقربين من الإخوان المسلمين لكن ليسوا إخوانا إرضاء لدول الخليج وكسبا لتركيا، ولن تضم الحكومة معاذ الخطيب الشخصية التي اشتهرت بأنها تعبّد الطريق للعابرين ولا تمشي فيه وتفتح الباب لغيرها ولا تدخل منه!
بشار أسد لم ولن يُبت بدوره خلال هذه الشهور وسيتركونه لمرحلة لاحقة، ولهذا فشل لقاء فيينا الرباعي بتحديد مصيره، وحدد موعداً قريباً يوم الجمعة المقبل، ربما هناك عرض قدمه أحدهم وطلب الحاضرون مهلة لنقاشه مع قياداتهم(!؟) أما ادارة أجهزة الأمن وما كان يسمى الجيش السوري، التي تحولت الى ميليشيات علوية فجة بعدما انسحب منها السُنة بداية الثورة ولحقهم المسيحيون والدروز، ستبقى بقيادة الشخصيات العلوية الحالية!؟
يقال إن الشعراء تلهمهم الشياطين، فقد قال الشاعر محمود درويش "ليس للكردي إلا الريح"! الأكراد دخلوا فخا خطيرا، فمن جهة انسلخوا عن محيطهم السني ويقودون لوحدهم حربا عرقية ضد العرب والسريان حولهم، في حين أن حربا دينية كبرى تدور حولهم، وحربهم هذه بالضرورة خدمت الحلف المعادي للسنة العرب! كما أن هناك من أقنعهم بعظمة دورهم وأعطاهم وعود الدولة الانفصالية، وزجهم في أتون معارك مع السنة العرب في سوريا خصوصا ومع الأتراك ومع داعش والتي لا يتوقع أن تنتهي حربهم في المساحة الممتدة في الشرق السوري والغرب العراقي قبل مرور سنوات يكون من نتائجها إرهاقهم كليا ولزمن طويل!
حكومة "الكيلو متر الأخضر" لن تصمد للأسباب التالية: الأول، أن النظام يراوغ ويناور فهو لايستطيع العيش في السياسة. والثاني إيران تمسك جزء من الأرض وقادرة على "تفجير" أي تسوية. والثالث، استبعاد الكتائب المسلحة في الخط السني الممتد غرب الفرات من إدلب إلى حوران، والرابع: أن هذه الجهات وجهات خفية أخرى ستحاول تصفية شخصيات هذه الحكومة اللعبة، كل حسب مبرره، والخامس: وهو الأهم على الإطلاق، من غير المعقول أن يقبل السُنة مقابل تضحياتهم ـ نحو مليون شهيد، ونحو 13 مليون مهجر، ومدن وأرياف مدمرة ومستقبل مجهول لزمن طويل ـ أن يقبلوا هذا الثمن البخس المعروض!
التعليقات (10)