"بوتين" السوفييتي يعيد إنتاج "وارسو" الجديد

"بوتين" السوفييتي يعيد إنتاج "وارسو" الجديد
إن استعراض العضلات للقوة الروسية في سوريا، بات يخرج عن ما هو مرسوم له بمخيلة أصحاب الأفكار الراسخة عن "القوة العظمى التي لا تقهر"، و"القطب الآخر في العالم"، غير أن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" يعرف تماماً أن ما يحصل في سوريا ما هو إلا لعبة قمار، قد يربح إن استطاع غش شركائه في اللعبة، وأعني بالشركاء من يجلس على طاولة الكبار (الولايات المتحدة - الاتحاد الأوربي)، والحقيقة أنه لا وجود لحلفاء إقليميين على الطاولة الخضراء الروسية، بل قد يكتفون بمتابعة دورة ورق اللعب، بانتظار النتائج، وتوزيع أكواب الشراب على الكبار..

في 19 آب عام 1991، كان الانقلاب الذي غيّر تركيبة اللعبة السياسية في العالم، وأنهى صراعاً امتدّ  على مدى ما يقارب الخمسين عاماً، دون مواجهة تذكر، باستثناء أزمة الصواريخ في كوبا، التي تعتبر أقوى مواجهة سياسية بين قطبي العالم أثناء الحرب الباردة، التي وصلت حدّ التهديد باستخدام السلاح النووي، وحصار برلين الشهير؛ في ذاك اليوم كان التلفزيون السوفييتي الرسمي يبث مقطوعة كلاسيكية (بحيرة البجعة)، بعد الإعلان عن عدم أهلية رئيس الاتحاد السوفيتي آنذاك "ميخائيل غورباتشوف" للحكم، واستلام نائبه بحسب الدستور "غينادي يانايف" للمهام الرئيسية، وبدأ الإعلام يصوّر الوضع بالمستقر والمنضبط، في الوقت الذي كانت خمسمائة دبابة تتوزع في أرجاء موسكو لحماية المؤسسات الحكومية، وبدأ الانهيار العظيم لدولة كان العالم يتغنى بقوتها الجبارة، لكن أساليب الطمأنة في الإعلام السوفيتي آنذاك، وإعلان حالة الطوارئ، ووضع "غورباتشوف" تحت الإقامة الجبرية من قبل المحافظين، لم ينقذ الاتحاد السوفيتي من الانهيار والتفكك، وهم الذين رفضوا خطته في إعطاء الحكم الذاتي للجمهوريات السوفييتية، لأنهم على يقين تام بالانهيار! 

يحاول بوتين إعادة إنتاج مكانة الاتحاد السوفيتي، عبر التدخل المباشر في مناطق عدة من العالم، حتى ولو لم يكن بين هذه المناطق أي اتصال جغرافي، ويسعى إلى تشكيل نواة حلف بديل لحلف "وارسو" - الذي انهار بانهيار الاتحاد السوفييتي - في مواجهة الحلف الدولي لمحاربة داعش في سوريا، وطبعا محاربة الإرهاب هي الذريعة الأولى، والمباشرة، لتأسيس هذا الحلف الجديد، الذي بدا واضحاً في ملامحه الأولى، عبر دعوة قائد العمليات العسكرية في الجيش الروسي الجنرال "اندريه كارتابولوف" إلى تأسيس قاعدة عسكرية روسية كبيرة في سوريا، ربما لتكون بمواجهة قاعدة "إنجرليك" العسكرية، التابعة لحلف شمال الأطلسي في أضنة التركية، وهو ربما ما يفسر تحرش المقاتلات الروسية بالأجواء التركية، منذ بدء التدخل العسكري في سوريا، ليكون مبرراً كافياً للكرملين، من أجل الموافقة على إنشاء هذه القاعدة، التي ستكون بمثابة طوق النجاة، بحسب اعتقاد أنصار ما يسمى "محور المقاومة والممانعة" الذين هم العماد البشري لأي حلف عسكري قادم .

مازال الإعلام الروسي يعمل بعقلية الإعلام السوفييتي، الذي انهار منذ ربع قرن تقريباً، هذه الطريقة التي اعتمدتها أساساً الدول التي كانت منضوية تحت سقف الاتحاد السوفييتي عقائدياً، والتي جعلت من كل انتقاد مؤامرة تستهدف البلد، ووحدة الوطن وسيادته: (إعلام الأسد - إعلام عبد الناصر، ثم السيسي ) كلّها تعاد نموذجاً مازال حياً.

أما "بوتين" رجل المخابرات السوفييتية، الذي يعتبر انهيار الاتحاد بمثابة الكارثة على الشعب الروسي، والشعوب السوفييتية، يعيد إحياء هذا النوع من الإعلام، الذي ينتصر دائماً، وبدون هزائم أو اكتراث للهزيمة، حتى وصل بهم إلى مرحلة الاستخفاف بمؤيديه الذين يصدقونه، أو ربما مضطرين إلى هذا التصديق الذي لا مفرّ منه، حيث يؤكد الجنرال " كارتابولوف" في لقاء مع صحيفة روسية، أن هذا التدخل العسكري في سوريا، جاء عبر عملية خداع كبيرة، حيث تم شحن الأسلحة بطريقة غير مباشرة، وأن المخابرات الأمريكية لا تعلم ما يحدث، حيث شكّل هذا التدخل صدمة للولايات المتحدة، التي رفضت التنسيق مع الروس. في الواقع، فإنّ  كلام الجنرال الروسي يناقض ما بثه الإعلام التابع للنظام السوري، عن الرسالة التي وجهها الأسد لبوتين من أجل التدخل في سوريا، ومساعدة جيش النظام في محاربة الإرهاب، إلا أن أنصار الأسد، الذين صدّقوا الرواية في الإعلام السوري، مضطرون لتصديق الرواية في الإعلام الروسي، الحليف، المخلّص، على الرغم من التناقض في التصريحات. 

لعلّ ما يعمل عليه بوتين أصبح واضحاً تماماً، في إنشاء منظومة عسكرية جديدة، لها مركز تنسيق وتبادل معلومات استخباراتية، مركزه الحالي العاصمة العراقية "بغداد، و يضمّ رقعة جغرافية واسعة حتى الآن (إيران - العراق - سوريا - روسيا )، إن افترضنا أن بحر قزوين الذي تطل عليه روسيا، وإيران، ودول لها مصالح متقاطعة اقتصادياً مع روسيا، ومذهبياً مع إيران، نجد أنّ بحر قزوين يقع ضمن هذه الرقعة الجغرافية التي باتت تسيطر عليها روسيا، وهو يحاول عقد تفاهمات لاقتسام الأجواء السورية، تفادياً للتصادم الجوي، حتى لا يكون ذريعة مباشرة لإنهاء التحالف، الذي يراه البعض هشاً بسبب الأزمات الاقتصادية لهذه الدول، وإعادة إنتاج الحرب الباردة. 

ومن الواضح أن "البروباغندا" التي تعمل عليها روسيا، من أجل قلب الموازين، لم تعد تفيد كثيراً، خاصة بعد الإعلان عن تنفيذ نحو 600  طلعة جوية، وتدمير قرابة 380 هدف، لتنظيم داعش، بحسب الجنرال الروسي لصحيفة " كومسومولسكايا برافدا" الروسية، إلا أن هذه الطلعات، والهجوم البري لحليفه على الأرض "جيش النظام السوري"، مدعوماً بمقاتلين من جنسيات مختلفة، كانت بمثابة المقبرة للدعاية الروسية، بعد تدمير قرابة 50 آلية عسكرية في ريفي حماه واللاذقية، وتقدم الجيش السوري الحر في عدد من المواقع، التي كانت تحت سيطرة جيش النظام، وتقدم تنظيم داعش في ريف حلب الشمالي ضد الجيش الحر، ومن ثم تسلّيمها لقوات النظام، من أجل صناعة نصر إعلامي مزوّر، خوفاً من تعويم فكرة فشل السلاح الروسي، عندها ستخسر روسيا سوق الأسلحة، بعد الانهيار في أسعار النفط والغاز، وهو ما سيشكل ضغطاً كبيراً جداً على بوتين. 

فالمحافظون السوفييت، الذين حاولوا بكل قوة – من خلال فرض حالة الطوارئ - تثبيت الوضع على ما هو عليه، محاولين الهروب من الانهيار، حكم عليهم بالسجن سنتين بتهمة الخيانة، السؤال ماذا لو فشل حلف وارسو الجديد في الانتصار على أعدائه، هل سيحاكم بوتين بالخيانة ؟ أم أنه سيكون مثل أي قائد حاول التدخل في مكان ما من العالم، وفشل التدخل دون أن تراق دماء القوات الروسية المتواجدة في سوريا؟

 عندها لا مبرر للمحاكمة، فمن قتل ليس روسي الجنسية، وهو بيت القصيد!

التعليقات (1)

    ابو عبدو الحوري

    ·منذ 8 سنوات 11 شهر
    شكرا يا استاذ مرهف على الدقه في اختيار المواضيع والتعابير والسرد التاريخي
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات