أما وإن حدث ما حدث، كمحاولة فاقعة لتعرية ليس اللاجئين، بل لتعرية أخلاق من يجهد ليل نهار لإكمال ثورة مضادة على الثورات العربية، أو ما سمي بالربيع العربي، لإعادة الاعتبار لحكم العسكر والديكتاتورية المنفلتة من القيم الإنسانية، والتي تحكمت بشعوبنا العربية منذ ما بعد الاستفلال، وجعلتها تدور في فلك الفقر والتهميش، محيدة طاقات الأمة من الفعل أو مانعة إياها من الانبثاق، لرسم مستقبل ناصع للأجيال، تأتي ريهام سعيد معتقدة أن لها ثقلاً معنوياً وشعبياً، لتعطي رسالة ملخصها في كلماتها نفسها والمعدة مسبقا لتناسب مونتاج وحركة الكاميرة، كي تؤنب الشعوب العربية على ما قامت به، ولكي تعطي صورة على مدى هشاشة مجتمعاتنا وتدني ثقافتها، بحسب حركة الكاميرة على شاحنة المساعدات المفترضة.
في وجه عيد الأضحى المبارك، فعلت ريهام سعيد وفريقها فعلتها، لتؤجج الحقد على السوريين أولا، وعلى ثورتهم، وعلى بؤسهم الذي جلبوه بيدهم عندما طالبوا بالحرية والكرامة، ففقدوا الكرامة بتشتتهم إلى مخيمات لجوء بعد أن دمروا بيوتهم عن سابق إصرار.
نعم استأجر السوريون طائرات وتبادلوها بالدور لتحلق في سماء مدنهم ورموا حمولتها الهمجية على بيوتهم، فدفن من دفن من أطفالهم، وهرب الباقون إلى الخارج، ليتلذذوا بمشاهدة فلذة كبدهم كشحاذين على عتبات اللؤماء.
لم تكن ريهام سعيد الأولى في عرض ذلك وفي التهكم على اللاجئين، فسبقها شبيحة الأسد، المحليين، بل قرر وارث النظام بشار الأسد، أن سوريا لم تعد لهم لأنهم تركوها، فهي فقط لمن يدافع عنها، كم أنتم خونة أيها اللاجئون وكم أنتم مستفزون، تنشرون كل الغسيل الوسخ على حبال وأسطح الجيران بمن فيهم من أشقاء، وتلوثون هواءهم العطر، ومدنهم الحضارية، الخالية من مقابر أصبحت بيوت للسكن، ومن بناء مخالف تربطه ببعضه ألواح الصفيح، شوهتم مدنا خالية من الأمراض والأمية، ومليئة بالحدائق والمنتزهات والمراكز الترفيهية والثقافية، قمتم بثورة مأجورة وقبضتم ثمنها أكفان أطفالكم ونسائكم وشيوخكم وزهور شبابكم، لكي تلوثوا أمن وبهاء مدن العرب النائمة على التأمين الصحي والتعليمي ورواتب البطالة ورعاية العجزة والمسنين.
في وجه عيد التراحم والتواضع أرادت ريهام سعيد وممولي حملة معوناتها للاجئين السوريين، أن تقدم عرضا مسرحيا بالهواء الطلق، عن عظمة النياشين العسكرية التي علقت فوق صدور من جعلوا النكبات انتصاراً، وعبادة الصورة والحذاء الذي يطبق على أنفاس من استساغ الذل تقديساً، لم يدرك أصحاب هذا العرض المسرحي الهزيل، أن اللهو بالدماء الآدمية ليس من مقامات الأضحى، وازدراء النفس البشرية ليس من مراسم الكرام، ولم يدرك هؤلاء، أن حركة الشعوب مهما تناثر حولها الذباب والذئاب، ومهما أغلقت بوجهها أبواب، هي برعم في قلب صخر كتيم، سينبت وإن بعد حين، في مصر وكذلك في سوريا.
لا يمكن انتقاد ما عرضته في ذلك الفيديو فنيا لأنه أصلا خارج حسابات الفن، ولا هو حالة إبداع لحظي علينا أن نجعله يحلق عاليا، فأنجلينا جولي لم تتحضر بإعداد لزيارتها لمخيمات اللجوء، وهي لا تتقن العربية، ولكنها بنظرة وابتسامة ولمسة وجلوس مهذب بين الطفولة، وبصور تناقلت عبر كاميرات الموبايل، وبلا مونتاج وموسيقى تصويرية، أدت نبضها الإنساني، بلا تكلف ولا صراخ وعويل.
نازحون ولاجئون نعم ولا نخجل، فهناك عالم صنع تلك الشاشات وإمكانية التراسل واعتقد أنه صنع حضارة، ذاك العالم هو من عليه أن يحمل عاره التاريخي، فاللجوء ليس عار المغلوب على أمره بل عار من جعله يغادر بيته، وعار من حشره في زاوية الابتزاز، وعار من ادعى الحضارة فإذ بها تنهار دفعة واحدة وهي عارية من كل ما يسترها.
هنا سوريا، حاولوا لوي ذراع هذي الأرض، وصدروا لها كل منحرفي البشرية من قتلة، بلباسهم الأسود، ومع أسدهم، حاولوا على مدى أربع سنوات ونصف، خنق روح الحرية، وخنق روح ثورة الإنسان على الذل والهوان، فلويت أذرعهم، بل وستقطع ليس على عتبة الخيام المشتتة ولا البيوت المدمرة، بل على عتبة النفوس الأبية، هكذا الثورات وهكذا التاريخ.
ولأنه العيد، ولأننا لا نعيّد على برامج تشبه ريهام سعيد بل تشبه الإنسان، يقول السوريون:لأجلهم، لا تغلقوا الأبواب، لا تطفئوا الشموع، لا تسرفوا الدموع، أرواحهم تطوف نحو الله، تمارس طقوس حريتها، تقول من عليائها، أن عيّدوا فأنتم أهل عيد، والأضحية قد قدمت، فهللوا للعيد، شهداؤنا في دمهم، قد أطلقوا التكبير، قولوا لهم لبيك يا شهيد.لأجلهم، لنكتب لغدنا أن لنا ثورة تعانق الخلود، في وطن قدر له أن يدفع ضريبة الحياة، ضريبة البقاء.
هنا سوريا، بخامس أضحى، تشهد للتاريخ، أنها إذ عاشت في خدعة الحضارة، تكالبت على أشلاء أطفالها وعلى مفاصل أبواب بيوتها، وسواقي مياهها، وطيبة أعراق أبنائها، تكالبت أمم، واستمرأت محنتنا، لكننا وللتاريخ نكمل الشهادة، أن صدى صوت الطفولة في ساحاتنا، مازال يرتد على كل المسامع ويرسمها كطيور الحمام البيضاء، ويغرد، "الشعب السوري ما بينذل" هكذا ابتدأت وهكذا ستنتهي.
التعليقات (1)