فمن نتائج الحرب العالمية الأولى بين عامي 1914 الى 1918 انهارت الامبراطورية القيصرية اقتصاديا وسياسيا، لتأتي ثورة لينين وتعلن الحكم الاشتراكي الأممي، وتبدأ المنظومة الشرقية بالتصاعد، دماء كثيرة سفكت بالحرب العالمية الأولى، وكأن الشعوب خلقت لتحرق في أتون الحروب الغرائزية، أما حروبها لإخضاع الشيشان فلم تنتهِ منذ عقود طويلة، ولم تنل الامبراطورية الروسية سوى سجلات من الخراب والجرائم بحق هذا الشعب الذي دفع الكثير من الدماء لأجل استقلاله، ودفاعا عن أرضه من غرائز روسيا التوسعية، ولعل سوء حظ هذه الدولة هو قربها من روسيا، فلم تحصد يوما هدوء بال أو استقرار، وإن عام 1944 قد يكون العام الأوضح لبشاعة السياسة والعنصرية الروسية تجاه الشيشان، حيث تم ترحيل مئات ألوف الشيشان وعدد من القوقاز إلى سيبيريا، وهناك معلومات طمست ولكنها بذاكرة الأحياء من الشيشان وتناقلتها الأبناء، أن بعض القطارات التي كانت تنقل الشيشان لترحيلهم، كانت تترك بمناطق خالية بسيبيريا ويعود قائد القطار بقمرته، لتموت الناس متجمدة من البرد بلا طعام أو شراب.
كثير من القرى والمناطق الحدودية الشيشانية تم إخلاؤها من سكانها بعيدا عن جرائم روسيا، لكن هذا الشعب الأبي، استعاد حيويته مع الزمن وأبدى رجولة وصبرا في مواجهة تطلعات روسيا، وإن خسائر الروس في تسعينات القرن الماضي وحده بلغت الآلاف من الجنود نتيجة حرب العصابات التي اعتمدها ثوار الشيشان، بحيث اضطرت القوات الروسية إلى مهاجمة العاصمة غروزني بطريقة قاسية وهمجية.
ليس الشيشان وحدهم من دفع ثمن العنجهية الروسية، فكافة الدول المحيطة بروسيا تم التعامل معها بطريقة الابتزاز والإفقار، وقد تبدو الأزمة التي حصلت بين روسيا وأوكرانيا في السنة الماضية، خير تعبير عن رؤية دول جوار روسيا لروسيا، كذلك الأمر بما حدث في جورجيا عام 2008 والدخول الروسي إلى أستونيا واستهتاره بالسياسة الغربية لفرض أمر واقع، دفع ثمنه شعب جورجيا، وحتى الآن لا توجد مصادر دقيقة على حجم الخسائر الكبيرة التي دفعها الجورجيون والروس معا، فكثير من الحقائق قد طمست.
في أفغانستان وضعت روسيا كل ثقلها لدعم حكم نجيب الله، ولكنها فشلت، فدخلت بحرب طويلة الأمد، امتدت من نهاية عام 1979إلى بداية عام 1989استطاع فيها الأفغان دحر الروس وإثقالهم بخسائر مادية وبشرية كبيرة، وأيضا بدت قيادة هذه الدولة أنها ليست سوى مافيا متعطشة للدم والمال، في حربها بأفغانستان، والتي وصفها مؤتمر نواب الشعب الروسي نفسه بالحرب الكارثية، بالتأكيد الكارثة الكبرى كانت لأفغانستان التي لم تتعاف حتى اليوم، نتيجة تلك الحرب الكارثية والتدخل الروسي السافر ضد إرادة الشعب بالتخلص من نجيب الله الذي فرضت حكمه بالدم والقمع الامبراطورية السوفياتية.
أمثلة كثيرة ونماذج مشابهة للعقلية البوتينية مرت ليست على روسيا وحسب بل على البشرية، وعاشت في دوامة الدم والغرور، فانتهت إلى مستنقعات للفساد، لكن وارثي الفساد في روسيا الذي انتهى إليه الاتحاد السوفيتي، والذين شكلوا إمبراطوريات مالية فردية محمية بواجهة أمنية هي بوتين ذاته القادم من بيت المخابرات الروسية الشهير، أصبحوا الآن وجها إلى وجه مع أهم حضارات التاريخ القديم وهي سوريا، وإن كانت التغطية الفجة لبشار الأسد دوليا من خلال موقف يدل عن رخص وخسة في المحافل الدولية، وبالذات مجلس الأمن وبقية منظمات الأمم المتحدة، فإن استمرار دعمه بالسلاح من كل الأصناف وتقديم الدعم اللوجستي له لتنفيذ جرائم بحق شعب، وذلك على مدى أربع سنوات ونصف، لم يكن مناورة سياسية غايتها النهائية لحس المال الخليجي أو عقود أوربية بالتجارة وحسب، بل ينظر لها وبحسب المتابعة للسياسة الروسية، أنها بداية القفز بالهواء، لتصل أخيرا إلى إنزال عسكري واضح على شواطئ سوريا وهي القفزة الأكبر في الهواء.
لا مجال لكتابة الشعر أو اللعب بالعواطف حين نقول، إن قفزة بوتين هذه عبر البحار، في منطقة استراتيجية لأوربا وهي البحر المتوسط، وإظهار عضلات قواته على شواطئ شرق المتوسط حيث اكتشافات جديدة للغاز، هي ليست قفزة دب ثقيل، بل قفزة أرنب نظر إلى ظله في الصباح الباكر حيث الشمس تشرق، فوجده طويلا، فجاء من يروج لحرب باردة جديدة، أو حرب عالمية مصغرة، متناسيا أن تلك الحرب الباردة التي استمرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، كان شرقي أوربا حينها ضمن فلك تلك الديكتاتوريات المغلقة، وبرغم ذلك انتهت تلك الحرب إلى تمزيق الاتحاد السوفيتي نفسه، وبالمقابل كان المعسكر الآخر يتمتع برجال دولة قادوا دولهم بحزم، ضد النفوذ السوفيتي، لكن روسيا التي تعاني اليوم من أزمة اقتصادية حادة، وتخلف تقني وإداري، وعدا عن ذلك فإنها تخلو من وزن سياسي، وإن تلك الاستعراضات التي نراها من بوتين ووزير خارجيته لافروف، هي نتيجة طبيعية لغياب عنصر الذكاء أو الفطنة، التي كان من الممكن أن تنقذ روسيا لو أنها استغلت الضعف السياسي الأميركي بوجود رئيس لأول مرة في التاريخ بهذا المستوى شبه المعدوم من الإرادة، مع وزير خارجية أيضا غير مقنع سوى بصوره الاستعراضية مع لافروف نفسه، وهنا مكمن الأمر، فلو أن روسيا تمتعت بالذكاء السياسي وقررت الوقوف مع حركة الشعوب في المنطقة، ووقفت بحزم ضد الحكام، لنتخايل حضورها على الساحة السورية وفي العالم الإسلامي فقط، مقابل التراخي الأميركي أو غياب الإرادة الأوبامية في البيت الأبيض.
بجميع الأحوال حصل ما حصل وها هو الأرنب الروسي على شواطئ المتوسط، حيث غادرت وعلى مدار مئات السنين وفي موجات مختلفة، جيوش امبراطوريات مهزومة، هنا حيث لم تعد روسيا تلك الامبراطورية التي تمرغ أنفها في إفغانستان الفقيرة وحسب، بل هنا روسيا الخائبة في كل المجالات ما عدا ضباط عسكر العالم الثالث الطامحين للاستعراض مع أتباعهم، يريدون تكرار تجربة الخمسينات في دول لم تخرج من دائرة الفقر بعد، وعلى هذا فإن ما تفعله أو ستفعله روسيا على شواطئ المتوسط وفي سوريا، هو من أهم مراحل التاريخ الذي ستعبر فيه سوريا من دولة متهالكة خارجة من حرب طويلة وعدوها كان نظامها السياسي، إلى دولة تتحكم بالتوازنات الإقليمية، وإن بعد حين، بحيث، سجل على أرضها انهزام الأسد وإيران والروس، والغطاء الأممي، ومرتزقة العالم بأسره في محيط عربي مخدر، لكنها وبثقة التاريخ الذي ساهمت فيه بقوة، لن تعيد الروس إلى سيبيريا كما فعلوا بالشيشان وحسب، بل سيؤكد الثوار السوريون للعالم أن البحر المتوسط، الذي أكلت أسماكه لحم السوريين الهاربين من إجرام الأسد، هو ذاته بحر الحضارات التي لا تطيق قفزات الدببة، ولا استعراض الأرانب بالسيرك.
التعليقات (3)