مأساة الاستسهال

مأساة الاستسهال
كتب أحد الذين يقدمون أنفسهم على مواقع التواصل وفي وسائل الإعلام أنه كاتب ثوري مساء الأحد، يخاطب جمهوره:

"ألم أقل لكم إن دروز السويداء لم يثوروا، وإنهم سيعودون إلى حظيرة الأسد حين يأمرهم بذلك مشايخهم، وأن كل شيء سيعود على ما كان عليه قبل تفجيرات ظهر الجبل .." الخ.

ولأني لم أكن قد قرأت ما قاله سابقاً هذا (الكاتب) فقد عدت إلى منشوراته الأقدم، دون أن أجد بينها أي شيء يقول هذا الكلام، رغم أن صفحته كانت مليئة بالتحليلات والتوقعات المتناقضة، بل وبالأخبار المتضاربة المختلق أكثرها، والتي لا يمكن أن يصدقها من أبقت له الأيام ذرة عقل!.

كدت أنقض العهد الذي قطعته على نفسي، بعدم الدخول في أي جدل أو نقاش أو مناكفة مع أي أحد أو جهة، وأن أكتب له معلقاً أن: لا، لم تقل هذا الكلام ولا مثل هذا الكلام، لا من قريب ولا من بعيد .. أو بالأحرى، أنت لم تقل كلاماً يستحق أن تطلق عليه صفة (كلام).

ولعل هذا (الكاتب) كان سيكتب الجملة نفسها أياً كانت التطورات في السويداء، لكي يوهم جمهوره المسكين من جديد، أنه عالم عارف بكل شيء .. ولما لا، طالما أن هناك من يقرأ له ويثني عليه، وطالما أنه لا زال يجد في الإعلام من يستضيفه، بعد أن انتقل من مرحلة (المصادر المطلعة) التي تخبره بكل شيء، إلى مرحلة الكشف الرباني عن كل شيء!

إحدى المصائب الكبرى التي ابتليت به الثورة، هي استسهال كل شيء، مقابل الحصول على الشهرة والصفة والمتابعة والجماهيرية .

استسهال الانتصارات .. استسهال الخسائر .. استسهال الدماء .. استسهال الاتهام .. استسهال التخوين .. استسهال التحليل .. استسهال الإفتاء .. استسهال التكفير .. الخ !

أصبح أحدنا يقرر الانتصار بمعركة وهو يجلس في بيته، فيكتب مع انطلاقتها مئات التغريدات، ويطلق عشرات التصريحات اليقينية عنها، باعتبارها معركة محسومة سهلة، دون أن يعطي بالاً أو أهمية إلى أن من يخوضها هم رجال من دم ولحم، وأن الواقع على الأرض يختلف عن تصوراته وتحليلاته، أو تمنياته، وإذا ما فشلت المعركة، يقرر أن السبب خيانة أو عمالة .. هكذا بكل سهولة !.

أصبح أحدنا يقرر مسبقاً ما سيحصل في هذه المنطقة أو تلك، دون أن يفهم طبيعة هذه المنطقة، وتركيبتها وجغرافيتها وتشابك تعقيداتها، ثم يملي على الجميع تصوراته وقرارته، التي إن حدث وخالفها الواقع، فإن الواقع هو الخطأ، وتصوراته وأوهامه هي الحقيقة !

يتعامل الكثير ممن يعتبرون أنفسهم نخباً مع ما يجري في سوريا اليوم على أنها مباراة كرة قدم، ويتجاهلون -بلا أدنى مسؤولية- بحر الدم الذي يسيل، من أجل مصلحة عابرة أو فائدة شخصية، متناسين أن ما يكتبون عنه معارك ودماء وأشلاء.

إحدى حسنات هذه الظاهرة، أن هذا النوع من (النخب) قد سقط أمام الجزء الأكبر من الجمهور، الذي اكتشف بمرور الوقت وتكرار سقطوط هؤلاء، مدى الكذب والخداع الذي مارسوه عليه خلال السنوات الماضية من عمر الثورة، لكن الخطير أن هذه الفئة، وبحكم مهارتها الفائقة في التحايل، استعادت جماهيريتها من خلال (الكتابة) على هوى الجمهور.

فإذا كان الناس معجبين بفصيل أو تشكيل، اختلقوا لهم معارك لم تحدث، وضللوهم ببطولة ينسبونها له دون أن تقع، من أجل الحصول على إعجاباتهم .

وبالمقابل، إذا كان الناس ناقمين على فصيل أو مؤسسة، اخترعوا أخباراً تؤيد هذا التوجه، وألفوا قصصاً ترضي هذه الأهواء، وبثوا اشاعات توافق تلك النقمة.

أما المصداقية، والموضوعية، وتحمل المسؤولية، ونشر الوعي، وتصحيح الأخطاء، ومعالجة المشاكل، وتبيين الأسباب، وشرح المعطيات، وتقديم البراهين، والبناء على الأرقام والوقائع، والاعتماد على الموثوق من الأدلة والحقائق، فهو آخر ما يمكن أن يحتاجه هؤلاء !.

لا فرق عند البعض إن أضر أو أفاد، طالما أن من يدفع الثمن هم الآخرون، الذين ليس من بينهم من يهمه دمه أو مصيره .. بل إن بين هذه الفئة من ينتظر بفارغ الصبر، أن تجهز داعش على آخر مقاتل من الفصائل، لكي يثبت صحة وجهة نظره بأن داعش على حق، أو أن يبيد النظام كل أهل الغوطة، ليثبت أن زهران علوش عميل، ثم لا تتفاجأ في الوقت نفسه، أن يهاجم هو ذاته من ينتقد فصيل من هذه الفصائل، أو يتكلم على خطأ من أخطاء جيش الإسلام !

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات