على ما يبدو أن سياسة "أنا ومن بعدي الطوفان" التي كانت وما زالت تتبعها كل دولة عربية منفردة بذاتها، وأدت بمجموعها إلى سياسة عربية عامة مرتبكة، قد تتحول رويدا رويدا إلى ذلك المثل الذي يقول "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
تاريخياً وبعد نشوة الاستقلال التي تتالت على المنطقة العربية في القرن الماضي، والتفاف الجماهير بشكل عارم في الدول ذات الكثافة السكانية الأعلى حول خطابات تعبويةلقضايا التحرر والعمل والنمو وما إلى ذلك، والتي أدت بنتيجتها إلى كم هائل من الشعارات التهمت أحلام الشعوب والتهمت في طريقها قضية التحرر التي ارتبطت بفلسطين وما تلا ذلك من هزائم وإحباطات، ثم أدخلت شعوب المنطقة في دوامة البحث عن الهوية، في الحقبة التاريخية ذاتها خرجت أوربا من حرب عالمية مدمرة كادت أن تنهي مدنا كاملة عن الخرائط، وكذلك خرجت اليابان من مأساتها النووية، وتم إعلان دولة إسرائيل في قلب الجغرافيا العربية.
بقيت دوامة التنمية في الدول العربية كثقب أسود يستنزف الوقت والجهد والمال خلال تلك العقود، وبقي مفهوم التنمية مرتبطاً بالخدمات العامة وصيانة الطرق واستصلاح الأراضي وإيصال الكهرباء والماء وتحسين رغيف الخبز، وثمة جهود محدودة لتطوير المهارات على استعمال تكنولوجيا تجاوزها العالم وأصبحت خردة لديه، فتشكَّل فارق حضاري شاسع بين منظومتنا العربية وكل من اتبع أسلوب التنمية الحقيقية للموارد والقوانين والتعليم والحقوق المدنية العامة والخاصة، وقطع أحلام السياسيين عند حدود واضحة ومحددة من خلال دستور واضح بعدد من السنوات كي لا تأخذهم نشوة السلطة ليصبحوا عبئا على البلاد والعباد.
جاء ربيع العرب لتملأ الساحات حناجر شباب محبط ومحاصر في كل شيء ويملك إحساسا بانقطاعه عن الماضي،ومحاصر بحجب المستقبل عنه بحيث يعيش واقعا قسريا غير واضح المعالم، لم يتوقع شباب الأمة الثائر أن صراخه سيهز أركان العالم بأسره ويضعه أمام حقائق مرت عليها عقود تحمل الكثير من المآسي، فسارع المجتمع الدولي للتحايل على ذلك الربيع بصيغ مختلفة أينما حل من تونس إلى ليبيا فمصر وسوريا.
في سوريا بدا جليا ومع تقدم الثورة وانتصاراتها أن المطلوب شطب كلمة ثورة من القاموس السياسي، لتصبح بأحسن الأحوال أزمة، وهو انعكاس طبيعي لشكل النظام العربي وشكل النظام العالمي الحالي، لكن تدخل إيران السافر ودخولها للمناطق الرخوة، مستغلة هذا التردد العربي في الوقوف بوجه الأسد وجرائمه رغم المساعدات الإنسانية التي قدمت للنازحين، مع مواقف العديد من الدول العربية المتعاطفة أصلا مع الأسد وليس مع الشعب، وكان موقفها واضحا في اجتماعات الجامعة العربية خلال السنوات الماضية لدراسة ما يجري في سوريا، مع الإشارة لاختيار شخص متل الدابي كمبعوث لها، وهو يعبر عن مواقف غير جادة حينها لتلك السياسات.
تدخل إيران السافر والوقاحة الروسية كانا المرآة الأوضح أمامنا لعجز المنظومة العربية عن مواكبة الحدث السوري، ولكن السؤال الأهم والمطروح دائما، هل ستكتفي إيران بالتخريب داخل النسيج السوري، وهل ما فعلته وتفعله هو دفاع عن الأسد أم خدمة لمشروعها، وهل هذا السؤال تضعه السياسة العربية نصب أعينها وتبحث عن إجابات واضحة ومحددة تبني من خلالها استراتيجيات لا تعيدنا إلى العقود الماضية؟.
الواضح لنا حتى الآن أن كل تلك السياسات تشبه وضع اللاصق الطبي لتغطية الجرح موضعيا دون البحث عن علاجات جذرية، فإيران التي استثمرت جيدا في الإرهاب، وألقت تهمته على العرب، لم يستطع الساسة العرب رد الكيل ووضع تعريف الإرهاب بمصدره المباشر وهو إيران، فتنظيماتها الإرهابية من العراق إلى سوريا فلبنان واليمن، مازال العالم يتجاهلها برغم أن إجرامها يفوق بأضعاف مضاعفة ما أجرمت به داعش،لكن الأخطر من ذلك هو التلاعب بالنسيج الاجتماعي العربي لتهديمه، وإن تجربة لبنان الذي تتعطل فيه حتى آلية انتخاب رئيس للجمهورية، والعراق الذي أصبحت جراحه لا تحصى، لخير مثال على ما وصلت إليه الأمور بعد التغاضي العربي عن تدخل إيران خلال السنوات الماضية، ليفاجأ العرب بأن ما كان يطلقون عليه قلب العروبة النابض وهو دمشق، هو مستعمرة إيرانية كان يعد لها أصلا قبل الثورة السورية، وحين حاول البعض تحذير العرب من هذا المشروع القادم بعد اغتيال الرئيس الحريري، وهو الوجه البارز وصاحب الحضور الهام دوليا باسم السنة والعرب عموماً، واجه العرب ذلك رويدا رويدا بإعادة تأهيل بشار الأسد والتعاطي مع الأمر الواقع، لكن إيران كان لها رأي آخر، فقد تابعت تسللها، معتمدة على سياسة واضحة أن العرب دائما يقبلون بالأمر الواقع ويتعاطون معه كون لا بدائل لديهم.
هكذا تعاملت مع السوريين واستسهلت إبادتهم والاستيلاء على عاصمتهم ومحاولة تغيير الديموغرافيا فيها، لتكرر مشروعها الذي أنجزته بلبنان باستيلاء حزبها الإرهابي على مفاصل الحياة في العاصمة، بحيث أي نهاية لحكم الأسد ستكون لها يد على الأرض تتحكم بسوريا القادمة وتعطل حياتها السياسية ونهضتها لتؤسس لعاصمة عربية جديدة، فبدأنا نلاحظ التخريب الإيراني في بعض دول الخليج، عدا عن التلميحات إلى التشيع بمصر وعمل دؤوب لجذب بعض اليسار العربي الفاشل وبقايا القوميين لبيت المال الإيراني في العديد من الدول كرديف لهذا المشروع، بما فيها بقايا حزب أنطون سعادة صاحب نظرية سوريا الكبرى.
لا شك أن عاصفة الحزم في اليمن شكلت فارقا في المواقف العربية، لكن وحسب المعطيات، هي دفاع عن النفس بشكل موضعي، فهل يمكن البناء عليها أنها بداية مشروع عربي يعيد إيران إلى حجمها وحدودها، فإذا كان الجواب هو مشروع عربي، كان علينا أن نتوقع أن سماء سوريا أصبحت محمية بمضادات طيران تبدل المعادلة، دون الرجوع إلى التوازنات الدولية، إن كانت أمريكية أو روسية، لكن البحث عن حلول من خلال ديبلوماسية تتّكل على موسكو في إيجاد تسوية في سوريا، هو نذير شؤم لمستقبل عربي نخشى أن تؤكل فيه الجغرافيا عاصمة عاصمة، بحيث قرر مصيرها الآن وأكلت يوم أكل الثور الأبيض حيث ترك للفارسي مجال للمناورة، واضعا دماء السوريين في المقامرة بحيث أن العرب سيرضون كالعادة بالأمر الواقع، ولكن بالمقابل أيضا ولمن لا يقرأ التاريخ، فإن السوريين هم من حاصر إيران وأسدها ومشروعها، وهم أصحاب المبادرة، وثورتهم مستمرة ولا يمكن تطويعها مهما ركبها من سياسيين، فهل يدرك العرب حصانهم الرابح قبل فوات الأوان.
التعليقات (0)