والآن ومع اقتراب الثوار شيئاً باتجاه دمشق، وأن كان بخطوات بطيئة ولكنها مستمرة ومتصاعدة، فكل مدينة تتحرر من قوات النظام هي خطوة باتجاه قصر المهاجرين فأن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما موقف أهالي دمشق من هؤلاء الثوار؟؟ دمشق التي كان النظام حريصاً على أن تكون تحت عباءته بأي ثمن، فمنذ بداية الثورة يمر أبناء المناطق الثائرة في سوريا، من دمشق كعابري سبيل باتجاه لبنان أو عائدين منه أو مقيمين لعدة أيام لتخليص أرواق أو معاملات مرتبطة بدوائر النظام أو كطلابٍ في جامعاتها، فيهولهم مقدار هدوئها مقارنةً بمناطقهم، كل شيء يسير برتابته المعهودة حتى يخيل للمرء أن واحداً من اثنين يعيش خارج الواقع أهل دمشق أو أهل الثورة، يحسّون بأن الشام قد أوصدت أبوابها بوجههم، بعض هؤلاء السوريين الثائرين يتحسر بسره على مدينته أو قريته المدمرة تحت القصف، والآخر يشعر بالخذلان والفشل ويتردد على لسان هذا السوري الجملة التي حرص النظام على أن يقولها أي سوري" مافي شي بالشام.. الحياة طبيعية".
أتذكر آخر المرات القلائل التي اتجهت بها إلى دمشق بعد الثورة كان النظام موجوداً بشوارعها، بشبيحته من سائقي التكاسي وأصحاب البسطات، صور بشار الأسد وحسن نصرلله بكل مكان فيها، يتحرش بك سائق التاكسي ليعرف ما هي توجهاتك, يشتم الثورة ويتفاخر بقتل الإرهابيين أمامك مراراً بقصد استفزازك، أحدهم قال لي عندما ركبت معه بسيارة الأجرة، وقبل أن أتحدث عن الوجهة التي أريد أن أذهب إليها : اذهب معك إلى أي مكان فقط لا تقول خذني إلى حرستا أو داريا، ويضيف: "ناس زعران هنيك"، لعلّه التشبيح الخالص هو ما دفع هذا السائق ليقول ما يقول .
ليس هذا السائق هو المؤيد "الشامي" الوحيد الذي شعر بالقرف من دخول المناطق المحررة حول دمشق, بل هو شعور جمعي لدى قسم واسع من المواليين نحو أبناء سورية الغرباء عن دمشق الأسد، الذين وصل بهم الأمر للقول بأنه "في حال تحررت هذه المناطق من الإرهابيين, فعلى القيادة الحكيمة أن تبني سوراً فاصلاً بين دمشق وهذه المناطق التي تحوي الحواضن الاجتماعية للإرهاب.
بالتأكيد لم يأت هذا الشعور من فراغ, فطوال خمسين سنة مضت أوجد النظام طبقة مؤيدة له ومدافعة عنه بشراسة، تكونت بالدرجة الأولى من رجال الأعمال والتجار الذين تقاطعت مصالحهم مع أجهزة النظام الأمنية والاقتصادية وضمت كذلك رجال دين، وخلال السنوات الأربع الأخيرة لحق بهذا الركب مجموعة كبيرة من "العقلاء" الذين لا يودون رؤية منظر الخراب الذي عم المدن السورية في مدينتهم أيضاً.
وأصبح الغرباء الذين أوصدت دمشق بوجههم يوماً يفرضون عليها اليوم الطريقة التي يجب أن تتعامل بها مع أبنائها السوريين الثائرين وهي النبذ، لم اكن أنا الذي أسبغ لقب الغرباء على البعثيين القادمين إلى دمشق على ظهور دباباتهم، سبقني منيف الرزاز وهو أحد قيادات البعث السابقين الذي عاصر صعود العسكر البعثيين حين قال : "إن انقلابات العسكر إبان الستينات لم تجلب سوى مزيد من الضباط الغرباء إلى القطعات العسكرية حول دمشق حاملين معهم لأهلها فقط الحقد والكراهية".
لم استطع أن أبقى طويلاً في دمشق ولم أتحمّل كل هذا الكم من التشبيح في شوارعها، أحسست أنني غريب عن دمشق وفيها، فقد سيطر علي شعور أن عاصمة الأمويين قد أدارت لي ظهر المجن، براياتها البعثية والمليشاوية الصفراء كذلك، وبصور سيد الوطن وسيد المقاومة، ولكنني وبعد خمس سنوات من الثورة مازلت مؤمناً بأننا سوف نعود لدمشق ولن تغلق الشام أبوابها بوجه أبنائها, وهي التي كانت ومازلت تغلق أبوابها بوجه البعث و ورثة انقلابه.
التعليقات (5)