لم يقتصر استهتار البيت الأبيض بأرواح السوريين بتجاهل ذبح الأسد وإيران لهم، بل تعداه إلى تحويلهم إلى فئران تجارب، حيث اختطفت جبهة النصر حسب تقارير محلية، قائد "المعتدلين" ونائبه وعدد منهم، بعد حوالي أسبوعين من دخول "المعتدلين" سوريا لقتال داعش حصراً، حيث غادرت الدفعة الأولى من برنامج التدريب الأمريكي المؤلفة من 54 عنصراً الأراضي التركية ووصلت إلى مدينة حلب عبر بوابة باب السلامة في كلّس الحدودية في 30 عربة من نوع تويوتا هايلكس، وتمركزوا في بلدة المالكية التابعة لمنطقة إعزاز في ريف حلب ذات الأغلبية التركمانية. وبعد عدة أيام استهدف التحالف الأمريكي قادة في جبهة النصرة ما أسفر عن مقتل عدد منهم.
تعرّض برنامج التدريب الذي اعتمدته الإدارة الأمريكية كأفضل استراتيجية لدعم الثورة السورية إلى كثير من النكسات والانتقادات حتى من أركان السياسة الأمريكية والقيادات العسكرية الأمريكية، فمن استقالة واضع البرنامج اللواء مايكل ناغاتا ذو التاريخ العسكري العريق في أول يوم لبدئه، دون أي توضيح للأسباب، والذي تلقفه السيناتور الأمريكي جون ماك كين بالدهشة: "أول مرة أرى أحداً يضع برنامجاً ثم يستقيل في أول يوم لتنفيذه" ، إلى محاولة إدارة البرنامج إجبار المتدربين على توقيع تعهد بعدم محاربة الأسد أو الاستفادة من خبراتهم في القتال ضده فيما بعد، ما دفع بمئات منهم للانسحاب من البرنامج، وفي النهاية بقي من المتدربين حوالي 60 وهو ماشكل فضيحة في أروقة الإدارة الأمريكية حيث تسبب وزير الدفاع الأمريكي آش كارتر بضجة عندما قال لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ أن البرنامج الذي تم تمويله ب 500 مليون دولار لتدريب وتجهيز "المعتدلين" السوريين لقتال داعش أسفر حتى الآن فقط عن 60 مرشحاً. وأضاف أن "الجيش يتولى فحص 7000 حالياً، والهدف من هذا البرنامج هو تدريب 3000 إلى 5000 مقاتل سنوياً، وهي بعيدة كل البعد عن 60 ممن يتدربون الآن."
ليتم ارسالهم فيما بعد إلى سوريا وضرب التحالف للنصرة بعد بضعة أيام، ثم الاختطاف على يد النصرة، لا يبدو هذا الترتيب فشلاً أو حمقاً أمريكياً أكثر مما يبدو استخداماً سياسياً لغايات أخرى، يترافق مع التجاهل الأمريكي للأسد ورفضها المتكرر لإقامة المنطقة العازلة التي إن بدأت ستشكل منطلقاً رئيسياً لقوات المعارضة، وستمنحها أرضية صلبة آمنة لإبعاد خطر داعش والحشد الحقيقي ضد الأسد، بالإضافة إلى الخطة الأمريكية غير المعلنة بالاعتماد على الكورد في محاربة داعش.
ولكن ماهي نتائج هذه الحادثة؟
إضافة إلى تلاشي الثقة شبه المعدومة أساساً في الإدارة الأمريكية بين السوريين بحماية المتعاونين معها، حمل هذا الخبر أهمية كبرى على عدة مستويات منها العسكرية والسياسية، كما أنه شكل نصراً إعلامياً لجبهة النصرة ولكل من يتبنى فكراً مضاداً للغرب والولايات المتحدة الأمريكية، كما وحّد حمق الإدارة الأمريكية لأول مرة نظرة وإعلام النصرة وداعش والكتائب الإسلامية والنظام الإيراني ومخالبه في سوريا ولبنان، حيث اتفق الجميع على فشل سياسة الإدارة الأمريكية ومقاربتها الهزلية للشأن السوري، فمع كل نصر إعلامي لداعش أو النصرة مع حفظ الفرق التوصيفي بينهما يزداد عدد المؤيدين والمتطوعين في صفوفهما، فخلال الوقت الذي استغرقه تدريب 60 مقاتلاً، قتل الأسد ومرتزقته واعتقل الآلاف دافعاً أهالي الضحايا إلى البحث عن الحماية أو الإنتقام بالانضمام أو تأييد الفصائل الإسلامية التي تقدم لهم ملاذاً منطقياً، فالسوريون بغالبيتهم العظمى مسلمون سُنّة، ولا ضير لديهم في الخضوع لنظام إسلامي يستمد قوانينه من ذات المنبع، فما يسميه الغرب إرهاباً وانتهاكاً لحقوق الإنسان هو بالنسبة لهم أهون من الوقوع في أيدي مرتزقة الأسد الذين يشكلون الإرهاب الحقيقي بالنسبة للسوريين، الذين يجدون في هذه الفصائل خلاصاً من إرهاب الأسد، ولكن ما هي ممارسات جبهة النصرة في سوريا؟ وما هي ممارسات النصرة التي قد يراها السوريين أفعالاً إرهابية؟
فرض الحجاب؟ وإقامة الحدود الإسلامية؟ واعتماد الدين الإسلامي كمصدر وحيد للتشريع؟ هل هذا كفيل باقناع غالبية السوريين أن جبهة النصرة هي تنظيم "إرهابي"؟ كي يدعمو الحرب الأمريكية عليها أو أن يوافقوا عليها؟
السعودية وإيران مثلاً تقومان بنفس الأفعال من تطبيق حدود قطع الرأس واليد والجَلد وفرض الحجاب والخمار والضرائب "الجزية" على غير المسلمين، وقتل من يرتد عن الاسلام أو "يحارب الله"، وضرب الناس بالسوط لسوقهم إلى صلاة الجمعة، ويقوم نظامها الحاكم على الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد للتشريع، وتنشر المنظمات الحقوقية تقارير عن انتهاكات لحقوق الإنسان في هذه الدول وترد هذه الدول بأن أنظمتها الحاكمة تقوم على الشريعة الإسلامية لا على مبادئ حقوق الإنسان التي يدعمها الغرب في أقواله ولكن لا يكترث لها في سياسته الخارجية تجاه شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب السوري، فما الذي سيدفع ضحايا إرهاب الأسد إلى تبني أو دعم أو التوافق مع اعتبارات الإدارة الأمريكية في حربها على جبهة النصرة؟!
جبهة النصرة التي كانت عاملاً حاسماً في ضرب نظام الأسد و إضعافه، ولا تزال ذات اليد الطولى في الانتصار على الأسد، كما أنها تقدم الخدمات الأساسية لمن هم تحت سيطرتها وتحمي الأقليات في مناطق سيطرتها مع تخييرهم بين الجزية "الضرائب" التي يدفعها الأمريكيون مثلاً وهو صاغرين وإلا تعرضوا للسجن، وبين اعتناق الإسلام، أليس هذا ما تقوم به دولاً مثل السعودية مثلاً.
لم توضع جبهة النصرة أساساً في قائمة الإرهاب الأمريكية إلا بعد إعلانها الولاء لتنظيم القاعدة، أي أن السبب لم يكن أفعال جبهة النصرة في سوريا، فما تقوم به النصرة في سوريا بالدرجة الأولى هي قتال مرتزقة الأسد، أما انتهاكات جبهة النصرة لحقوق الإنسان فهي أقل بكثير نوعاً وكماً بما لا يمكن مقارنته مع ما تركتبه حكومة الأسد وقواته، وفقاً لتقارير المنظمات الدولية والمجموعات السورية المحلية لتوثيق الانتهاكات، ومع ذلك لم تصنف الحكومة السورية الحالية في قائمة الإرهاب الأمريكية.
بالنسبة للإدارة الأمريكية فمن المتعارف عليه أن الأولوية في سياستها الخارجية هي مصالح الشعب الأمريكي أولاً بغض النظر عن أي أمر آخر كمعايير حقوق الإنسان مثلاً وهو أمر يفهمه السياسيون ويتقبلونه بما يتعارض مع محركات عمل المنظمات الحقوقية. وفي الحالة السورية هنالك تعارض كبير مع مصالح الشعب السوري الآن والذي لا يرى غالبيته ضيراً في قبول جبهة النصرة أو الكتائب الإسلامية بديلاً عن نظام الأسد "الكافر" والذي نكّل بهم وأذاقهم الويلات.
التعليقات (6)