رسالتان بين تولستوي ومحمد عبده: البحث المشترك عن إيمان حقيقي

رسالتان بين تولستوي ومحمد عبده: البحث المشترك عن إيمان حقيقي
في العام 1908 كتب الثوري الهندي (تاراخنات داس) رسالة إلى الكاتب الروسي (ليون تولستوي)، الذي كان قد وصل في ذلك الحين الى أوج شهرته ومكانته في العالم كمفكر مناصر لكل قضية محقة ساعياً الى العدالة في العالم، يسأله فيها أن يقف الى جانب حق الهند في الاستقلال والتخلص من الاحتلال البريطاني. وما إن مضى وقت قصير على تسلم صاحب «الحرب والسلم» رسالة الثوري الهندي، حتى بعث الى رسالة جوابية مطولة تستجيب لما طلبه وتعلن بكل صراحة الوقوف الى جانب الهنود في ثورتهم، وبخاصة من ذلك المنطلق الأخلاقي الإنساني الذي كان (تولستوي) قد أمضى العقدين الأخيرين من حياته يدافع عنه. وعلى الفور نشر داس الرسالة في أحد أعداد صحيفة «فري هندوستان» التي كان يحررها. وفي ذلك الحين وصلت الرسالة كما نشرتها الصحيفة الى شاب هندي يعيش في جنوب أفريقيا كان حينها قد بدأ أولى خطواته على طريق النضال في سبيل حرية وطنه الهندي. ولم يكن الشاب سوى غاندي الذي سينطلق بعد حين قائداً لثورة اللاعنف التي كان يؤمن أنها ستوصل الهند الى الحرية. أما في ذلك الحين فإنه لفرط إعجابه بالرسالة والنص الإنساني الأخلاقي الذي تضمنته، كتب بدوره الى تولستوي معرفاً بنفسه وطالباً الإذن بإعادة نشر الرسالة في الصحيفة الجنوب أفريقية «إنديان أوبينيون» وكان له ما أراد.

رسالة إلى هندي!

رسالة تولستوي هذه عادت ونشرت في كراس حمل عنوان «رسالة الى هندي». أما رسالة غاندي الى تولستوي فكانت فاتحة لمراسلات بينه وبين تولستوي تواصلت حتى موت هذا الأخير، ونشرت لاحقاً في كتاب حمل عنوان «رسالة من واحد: التراسل بين ليف تولستوي وماهاتما غاندي»، واشتهر طوال القرن العشرين بحيث لم يفقه بين المراسلات شهرة سوى تلك المتبادلة بين آينشتاين وفرويد حول الحرب والثقافة.

والحقيقة أن هذه المراسلات بين الكاتب الروسي الكبير والثائر الهندي العظيم، تذكرنا بتلك التي تبودلت قبل ذلك بسنوات، بين تولستوي نفسه، والمفكر النهضوي المصري الإمام محمد عبده، الذي كان في ذلك الحين يشغل منصب مفتي الديار المصرية، ويعتبر في طول العالم الإسلامي وعرضه من أبرز المجددين في التفكير الديني. ونقول هنا «مراسلات» وإن كان الثابت، تاريخياً أنهما لم تكونا سوى رسالتين، حيث أن الموت، في العام 1905، لم يمهل الإمام محمد عبده كي يواصل الكتابة التي كان هو من بدأها في ربيع العام 1908، فاقتصر الأمر على ما يبدو على رسالة وجوابها، يشكلان موضوعنا هنا.

أمة الأول بعيدة جداً عن أمة الثاني!

في ذلك الحين كان كل واحد منهما، في أمته، وعلى طريقته، قمة من قمم الفكر والمعرفة فيها، ناهيك بأنهما كانا يشكلان نوعاً من الضمانة الأخلاقية بالنسبة الى أعداد كبيرة من الناس. لكن أمة الأول كانت بعيدة جداً عن أمة الثاني، وكان من الصعب جداً للمرء أن يتصور إمكان أن يقرّب البريد بينهما. ولكن الإمام محمد عبده، المسلم - العربي فيهما، بسبب فضوله العلمي الشديد وبسبب احترامه لكل ما يمت إلى العقل بصلة، وبسبب المكانة التي كانت لليف تولستوي، المسيحي - الروسي، في وطنه ولكن كذلك في طول العالم وعرضه، كان لا بد له أن يسعى ولو لاتصال بريدي بينهما، حتى وإن كانت تلك الأحايين ندر أن شهدت تقارباً أو أي نوع من أنواع الاتصال بين المفكرين المسلمين وزملائهم الأجانب، إلا حين تندلع السجالات مع المستشرقين. كان كل ما يحدث من ذلك النوع، هو الالتقاء خلال سفر ما وتبادل الأحاديث الودية، ثم ينتهي كل شيء بعد ذلك. ولكن في تلك المرة لم ينجم اللقاء عن سفر، بل كان عبر تبادل الكلام، كان المبادر إليه الإمام محمد عبده، وكان ذلك قبل أشهر قليلة من رحيله، يوم وجد أن من الضروري له أن يتوجه برسالة إلى أديب الروس الكبير ليون تولستوي. فوجه إليه يوم الثامن من نيسان (أبريل) 1904 رسالة لا تزال محفوظة إلى اليوم في متحف تولستوي بموسكو. ولقد جاء في تلك الرسالة حرفياً:

"عين شمس، ضواحي القاهرة، في 8 أبريل 1904. أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي، لم نحظ بمعرفة شخصكم ولكننا لم نحرم التعارف بروحكم. سطع علينا نور من أفكاركم، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائكم ألفت بين نفوس العقلاء ونفسكم. هداكم الله إلى معرفة سر الفطرة التي فطر الناس عليها ووقفكم على الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركتم أن الانسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل ولأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه وسعياً يبقى ويرقى به جنسه، وشعرتم بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة واستعملوا قواهم التي لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها في ما كدر راحتهم وزعزع طمأنينتهم. نظرتم نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد ورفعتم صوتكم تدعون الناس إلى ما هداكم الله إليه وتقدمتم أمامهم بالعمل لتحملوا نفسوهم عليه. فكما كنتم بقولكم هواة للعقول كنتم بعلمكم حاثين للعزائم والهمم. وكلما كانت آراؤكم ضياء يهتدي به الضالون كان مثالكم في العمل إماماً يقتدي به المرشدون. وكما كان وجودكم توبيخاً من الله للأغنياء كان مدداً من عنايته للفقراء. وإن أرفع مجد بلغتموه لأعظم جزاء نلتموه على متاعبكم في النصح هو هذا الذي سموه بالحرمان والابعاد. فليس ما كان إليكم من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنكم لستم من القوم الضالين. فاحمدوا الله ان فارقوكم بأقوالهم كما كنتم فارقتموهم في عقائدهم وأعمالهم، هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمكم فيما تستقبلون من أيام عمركم، وإن لنسأل الله ان يمد في حياتكم ويحفظ عليكم قولكم ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقولون ويسوق الناس إلى الاهتداء بكم فيما تعملون والسلام. مفتي الديار المصرية محمد عبده".

اتصال برجل متنوّر!

ولما كان محمد عبده قد طلب، في ذيل رسالته، من تولستوي أن يكون جوابه عليه بالفرنسية، بعث إليه صاحب «الحرب والسلم»، في لغة موليير، وبعد أربعة أسابيع، رسالة يقول فيها:

«صديقي العزيز، لقد تلقيت رسالتكم الطيبة الحافلة بالمديح، وها أنذا أسارع بالرد عليها، مؤكداً لكم أولاً على السعادة الكبرى التي أعطتني اياها، إذ جعلتني على اتصال برجل متنور، حتى ولو كان ينتمي إلى إيمان يختلف عن إيماني الذي ولدت فيه وترعرعت عليه، ومع هذا فإني أشعر بأن ديننا واحد، لأني اعتقد ان ضروب الايمان مختلفة ومتعددة، ولكن ليس ثمة سوى دين واحد هو الدين الحقيقي. وإنني لآمل ألا أكون مخطئاً إذ افترض، عبر ما يأتي في رسالتكم، بأنني أدعو إلى الدين نفسه الذي هو دينكم. الدين الذي يقوم على الاعتراف بالله وبشريعة الله التي هي حب القريب، ومبادرة الآخر بما نريد من الآخر ان يبادرنا به. انني لمؤمن بأن كافة المبادئ الدينية الحقيقية تنبع من هذا المصدر، والأمر ينطبق على اليهود كما ينطبق على اتباع براهما وعلى البوذيين والمسيحيين والمسلمين، وانني لأرى أنه بمقدار ما تمتلئ الاديان بضروب الجمود الفكري، والأفكار المتبعة والاعاجيب والخرافات، بمقدار ما تفرق بين الناس، بل تؤدي إلى توليد العداوات في ما بينهم. وفي المقابل بمقدار ما تخلد الأديان إلى البساطة وبمقدار ما يصيبها النقاء، تصبح أكثر قدرة على بلوغ الهدف الأسمى للانسانية: وحدة الجميع، وهذا هو السبب الذي جعل رسالتكم تبدو لي ممتعة، مما يجعلني أرغب في البقاء على تواصل معكم. للمناسبة ما رأيكم في مذهب الباب، بهاء الله، واتباعه؟ في النهاية أرجو ان تتقبلوا يا جناب المفتي تعاطف صديقكم. ليون تولستوي".

وطبعاً لم يستطع أحد أن يؤكد على حد علمنا ما إذا كان محمد عبده وليون تولستوي قد واصلا تبادل الرسائل بعد ذلك، لكننا نعتقد ان في الرسالتين المتبادلتين بينهما ما كان من شأنه ان يفتح حواراً مثمراً ونافعاً لو تبعت هاتين الرسالتين رسائل أخرى.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات