ممّا لاشكّ فيه أنّ دخول تركيّا يقدّم خدمات إستثنائيّة للتحالف فهي ثاني جيوش حلف الأطلسي عددا بعد الولايات المتّحدة كما أنّ لها حدود طويلة مشتركة مع سوريا 850 كم ممّا يوفر كثيرا من ساعات الطيران و يسمح بإستخدام أنواع أخرى من الطائرات ذات حمولات أكبر أو بدون طيّار. لكن الفرق بالمشاركة التركيّة أنّها غير خاضعة للقيادة الأمريكيّة مثل باقي دول التحالف و الّتي تعتبر مشاركتها بالحقيقة معنويّة و رمزيّة أكثر منها عسكريّة؛ فالقيادة التركيّة هي الّتي تختار أهدافها حسب مصالحها ولديها الكفاءة والإمكانيّات لتنفيذ ما تختاره.
لم تتّفق تركيّا يوما مع السياسة الأمريكيّة تجاه الموضوع السوري, بل كانت تعتبر هذه السياسة هي سبب ما آلت إليه الأحوال بكامل الشرق الأوسط . و حتّى بعد تشكيل التحالف اصرّت الولايات المتحدة على أنّ هدفها محاربة داعش و تأجيل موضوع النظام السوري لمرحلة لاحقة . بينما إعتبر الأتراك أن السبب الأصلي هو نظام الأسد و يجب معالجة المسبّبات و ليس النتائج . و إذا عدنا للبدايات نجد أنّ الحكومة التركيّة و بعد أن إستنفذت كل الفرص الديبلوماسيّة لدفع النظام للتوقّف عن سياسته القمعيّة فبدأت بسياسة مغايرة تماما و أخذت موقفا هو الأوضح بتأييد مطالب الشعب السوري بالحريّة ، كما كان وضع اللاجئين السوريّين في تركيّا أفضل بما لايقاس من وضعهم بكل الدول العربيّة، بدون إستثناء , وكان الدعم الّذي قدّمته تركيّا للمعارضة السوريّة بشقيّها السياسي و العسكري حاسماً لإستمرار هذه الثورة رغم كل ما أستخدم ضدّها من وسائل إجراميّة من عصابة الأسد و حلفاءها، الذي ترافق مع صمت متواطئ من كل دول العالم و التي كانت تفضّل دفن الثورة بمهدها على إنتصارها وما سيترتّب على هذا الإنتصار من آثار في كامل المنطقة . و لا ننسى أنّ تركيّا هي البلد الديموقراطي الوحيد في الإقليم فلا يوجد لديها ما تخشاه من سوريا الدولة العصريّة الحديثة كما يريد شعبها.
برزت تساؤلات أخرى هل تستطيع تركيا فعلا الخروج عن الضوابط الأمريكيّة ؟ المعطيات المتوفّرة ترجّح أنّها تستطيع , و أنّ إتّصال أردوغان بأوباما قبل ساعات من الإعلان عن مشاركة تركيّا بالتحالف كان مشابها لإتّصال الملك سلمان قبل ساعات من عاصفة الحزم لإبلاغ الرئيس الأمريكي أنّ أمننا القومي في خطر و سندافع عنه بأنفسنا . و تمّ إحالة نقاط الخلاف للجان عسكريّة تبحثه فيما بعد . فإذا كان الوضع كذلك فلماذا لم تقم تركيّا بذلك منذ زمان ؟ . الإجابة أنّ حزب العدالة و التنمية أتى إلى السلطة و إحتفظ فيها كل هذه السنوات الطويلة معتمدا على الإزدهار الإقتصادي الّذي حقّقه و بفضل سياسته البراغماتيّة مع كل الدول، فكان بحاجة للغطاء الأمريكي ليقوم بخطوات يعرف أنّها ستزعج جاريه الكبيرين روسيا و إيران، فحجم التبادل التجاري التركي الروسي 32.7 مليار دولار ب 2013 و يخططون لرفعها ل 100 مليار دولار بعد سنوات قريبة و حجم التبادل مع إيران بين 15-20 مليار، و الأرقام الحقيقيّة قد تفوق ذلك بكثير لأنّ تركيّا كانت المنفذ الوحيد لإيران طوال سنوات العقوبات بشكل قانوني أو عبر الإلتفاف على هذه العقوبات . و السبب الثاني أنّ هناك عدم إتّفاق في الداخل التركي على الموقف من الموضوع السوري، حيث يقف الكثير من العلويين الأتراك مع النظام السوري، و معارضين آخرين ينتظرون أي خطأ أو سوء تقدير من الحكومة للهجوم عليها لأسباب إنتخابيّة بحته حتّى أنّه تمّ إتّهام حكومة العدالة و التنمية بمساعدة داعش، و لا يمكن أخذ مثل هذه الإتّهامات على محمل الجد و دعونا نتذكّر زيارة أردوغان لتونس و مصر بعد إنتصار الثورة عندما صرّح بأنّ حزبه إسلامي لكن ضمن دولة علمانيّة و كيف تعرّض للهجوم من الإسلاميّين العرب وقتها، بسبب رؤيته الحداثية للإسلام السياسي. هذه هي العوامل الأساسيّة للسلوك التركي الّذي يبدو كأنّه غير حازم بما فيه الكفاية بالموضوع السوري حتّى بدأت الإتّهامات بأنّ أردوغان صاحب الخطابات والتحذيرات الّتي لا تتبعها أفعال.
بالنهاية هل ستتحقّق المنطقة الآمنة ؟ الإدارة الأمريكيّة مازالت ترفض الفكرة و الحكومة التركيّة ستدفع بإتّجاه تحقيقها بوسائل مختلفة و تحت مسميّات مختلفة ربّما بدون حظر للطيران و ربّما بالتدريج لكنّ تركيّا أعلنت بوضوح أنّها ستقوم بما تمليه عليها رؤيتها لمصالحها الوطنيّة. و بكل الأحوال، فإنّ تحوّل تركيّا للاعب من داخل البيت السوري له تبعات إستراتيجيّة كبيرة فإذا كنت مواطنا سوريّا، إسلامياً كنت أم علمانياً، و عصابة الأسد الّتي إرتكبت كل هذه الجرائم بحقّك هي خصمك و هي أولوّيتك فستكون حتما سعيدا بالإنخراط التركي في الموضوع السوري ولكنّنا نستطيع أن نتفهّم أن يكون للكردي التركي أولويّات أخرى و عليه هو أيضا أن يتفهّمنا.
التعليقات (7)