"بقيت في سجن عدرا المركزي لمدة سنة تقريباً أحاول كل اسبوع إرسال طلب إخلاء سبيل بكفالة..ل كنها كانت محاولات فاشلة دائماً..... إلى أن تم تبديل القاضية بقاضٍ آخر، عندها حاولت إرسال طلب إخلاء سبيل كالسابق...انا واهلي معاً..إلى أن وافق القاضي أخيراً على إخلاء سبيلي بكفالة مالية وقد خرجت من السجن المركزي أواخر العام 2014، أي أنني بقيت معتقل 22 شهراً أو اكثر... خسرت دراستي، وخسرت سنتين من عمري وخسرت الكثير ممن كنت أعرفهم"!
عندما خرج عمر رأى دمشق أخرى. كان منظر المدينة أكثر مرارة وإيلاما له كدمشقي. ولهذا يصفه بعين مرهفة تلتقط التشوه العميق الذي أصاب المدينة: "خرجت ورأيت دمشق ثكنة عسكرية كبيرة... إذا نظرت لمن يتواجدون في شارع ما... تراهم يرتدون اللباس العسكري بنسبة اكثر من 80% مقابل البقية من المدنيين.. وقد تجد من المدنيين من أصبح بالدفاع الوطني أيضاً"!
حكايات لبنانية في السجون السورية!
لا فوارق، تُلغي المسافة بين قضبان السجون. أهم ما هنالك "علنية"، تُتيح للأهل معرفة مصير الابن. وربما الحصول على طعام أفضل بقليل. أو همس أعلى بين نزلاء الجحيم، يحكي أوجاعاً تترك ندوبها الأبدية، في ثنايا الروح.
غالباً، لا أسرار أو أسماء، تحجبها جدران سجن عدرا. لكن ما هو معروف من حكاياه، يتداوله الناس عادة، مسحوب الإثارة. مثل حكاية اللبناني (قيس سلمان منذر)، من مرتبات الأمن الداخلي اللبناني، والمُعتقل منذ عام 2006، بتهمة التخابر مع "إسرائيل".
قيس سليمان المنذر: اعتقال مؤبد!
ااعتقل الرجل من الحدود السورية، عند دخوله إلى البلاد بشكل نظامي. لكنه احتاج إلى قضاء أكثر من عام، بمنفردة فرع فلسطين، ليعرف التهمة الموجهة إليه. ومفادها التعامل مع الطيار بسام العدل، الذي هرب عام 1989، بطائرة "ميغ 23" إلى "إسرائيل"، بعز سطوة جيش الأسد بلبنان، وقدرته على الوصول لأي شخص "مطلوب" مهما كانت صفته، ومكانته. ما يدعو للتساؤل عن عدم اعتقاله طيلة تلك الفترة؟!.
عموماً، لم تعد التفاصيل مهمة، لرجل دُمرت سمعته. ثم قضى نحو 6 سنوات بسجن صيدنايا العسكري، قبل أن ينتهي حاله، نزيلاً قيد الاعتقال المؤبد، يمتهن صناعة القلادات الخشبية، وبذور التمر مع النحاس، لتأمين قوت يومه. يقول عنه (عمر):
" لم يعرف تهمته إلا بعد سنة وسهرين من الاعتقال في (فرع فلسطين) والسجن بالمنفردة والتعذيب. تم إرساله بعدها إلى سجن صيدنايا...وبقي هناك إلى ما بعد بداية الثورة السورية بسنة...بعدها نقلوه إلى سجن عدرا المركزي.. وهو الآن موجود بسجن دمشق المركزي بالجناح السادس الغرفة 604... كل طلب إخلاء سبيل يأتيه بالرفض...إذا قام بطلب بيان وضع عن وضعه بالتوقيف.. يأتيه بأنه قيد الإعتقال المؤبد... يعمل حالياً في سجن عدرا بصنع القلادات والميداليات الخشبية ..أو المصنوعة من بزور التمر مع النحاس الذي يخرجونه من الأسلاك الكهربائية... ليكسب رزقه ويستطيع شراء أكله وشربه"
سهيل جوزيف الحموي: غرام وانتقام!
لا تختلف قصة اللبناني سهيل جوزيف الحموي "أبو جورج" 51 عاماً، كثيراً عن تهمة ابن بلده قيس. اعتقلوه من منطقة الميدان بدمشق، حيث تسكن شقيقته، ثم اقتادوه إلى فرع فلسطين، حيث بقي في المنفردة 3 سنوات، تحت التعذيب الشديد. ثم رُحل منها إلى سجن صيدنايا، ومنه إلى عدرا 2012. يسكن نفس جناح قيس، وذات الغرفة، مع فارق أن التهمة، هي التجسس على "الجيش والأمن" لحساب حزب الكتائب، هذه المرة.
22 عاماً من عمر سهيل، أحرقتها السجون، لم يرَ ابنه "جورج"، الذي أبصر الدنيا فور اعتقاله. غير انه يملك موهبة الشاعر بالكتابة، وأحاسيسه بالحياة، بحسب الناشط (عمر) إلى درجة التصالح مع "ماريا"، التي دبرت له "لأسباب عاطفية" مكيدة "التجسس". قبل التواصل معه بعد نقله إلى سجن عدرا. نادمة، تسأله مسامحتها. يقول (عمر) عن علاقته به داخل السجن:
" كان (أبو جورج) بمثابة أب لي في سجن عدرا...كان يعتني بي وكان يعاملني كوالدي تماماً...كان يخبرني بأنه يشعر بأنني كإبنه جورج الذي لم يره... كان يكتب أشعاراً أجمل مما كتب نزار قباني حتى ..أقسم وبدون مبالغة... يتكلم كل يوم مع زوجته التي يعشقها عشقاً ليس له حدود... كان يحكي لي عن بطولاته الغرامية مع النساء قبل الزواج ... كان يشعر بالحرمان الدائم من كل شيء... وكان يعمل بالأرابيسك أيضاً كسائر المعتقلين القدماء (بزور التمر والنحاس والخشب والميداليات الصغيرة...)... بالمظهر...يشبه المخرج السوري علاء الدين كوكش بنسبة 90%..."
عاشق المذيعة "الأسدية"!
لعل الحكاية الأكثر إثارة، تعود لفلسطيني متهم بتجنيد نفسه لصالح "إسرائيل"، إثر عدم توقفه على حاجز لميليشيا أحمد جبريل، اسمه بشار شريف يحيى "51" عاماً، 30 عاماً منها، تلاشت في السجون، 7 سنوات بإحدى منفردات فرع فلسطين، ثم "20" عاماً في واحدة من "جماعيات" سجن صيدنايا، ليحل منذ 2012 نزيلاً بسجن عدرا. لكنه لم يقطع الأمل، بأن أحداً ما "سيتدخل" لإخراجه.
يعتبر نفسه ميتاً حتى الافراج عنه، يُمني النفس بزواج، لم يذق طعمه. وعائلة تُدغدغ أحلامه بالنوم، كما في اليقظة.
هذا المُعتقل، يرى فيه الناشط (عمر) أذكى من صادفهم بحياته. بيد أن العزلة الطويلة بالمنفردة، والحسرة المتواصلة على مدار 30 عاماً. أصاباها بلوثة ما،على ما يبدو. دفعته للقيام بتصرفات غريبة لافتة، منها توهمه بمخاطبة مذيعات التلفزيون، ووقوعه بغرام مذيعة قناة "تلاقي" يارا وردة.
يتوهم بشار شريف يحيى "أبو صالح"، انه على علاقة "حب" متبادل مع "يارا". يترقب "إطلالتها" على الشاشة. ويفرض حظراً شاملاً خلال عرض فقرتها، على نزلاء الغرفة (ممنوع لمس الجهاز، أو التشويش بالصوت المرتفع، تحت طائلة المُشاجرة) التي كادت أن تقع مرة مع أحدهم، لأنه شتم القناة، دون أن يسمي يارا.
أبو صالح، لا يأبه بما تقوله المذيعة من أصله. هو يكتفي فقط بمراقبتها، والتلفظ همساً بعبارات الحب. وتقبيل باطن كفيه، متوهماً تقبيل "يارا" بشحمها ولحمها.
الهروب من مسلخ الأسد!
عاش (عمر) فترة من التخفي بعد خروجه من سجن عدرا، أواخر 2014، بموجب كفالة مالية، تحت "المُحاكمة".. ولم يتمكن من مغادرة سورية إلا قبل نحو ثلاثة أشهر، تاركاً خلف متاريسه وأبوابه الكثير من الآهات، وحطام الأحلام. ليجد أمامه بقايا وطن، استباحته ميليشيا الولي الفقيه الطائفية، وحراب العسكر، وسواطير الشبيحة. لذا، لا غرابة بأن يتأبط ذراع مهرب "الأغنام"، فاراً خارج حدود المسلخ.. وكانت آخر كلماته وهو يختم روايته لنا:
" نظرت إلى خلفي نظرة شخص سيشتاق كثيراً لوطنه... شخص ذاق الذل والإهانة قبل خروجه من وطنه. في طريقي إلى (تركيا) مررت بكل الفصائل التي تقاتل بسوريا (النظام - الجيش الحر - جبهة النصرة - الجبهة الشامية - تنظيم الدولة الإسلامية - وأخيراً احرار الشام)... أما الآن فقد تكفل أحد الأشخاص بأخذي معه إلى أوروبا عن طريق الهجرة غير الشرعية... وربما أصل أولا أصل"!
التعليقات (5)