كلّ تلك العوامل جعلت إيران تتمدّد في غفلة من جيرانها، متكّئة على مظلوميتها المعتادة، ومستفيدة من تجربة الدولة الدينية الأخرى في المنطقة، عبر تكريسها عدواً لها، دون مقدمات، وكانت القدس هي المشعل المضيء لهذا العداء الوهمي، بغية كسب التأييد العاطفي الديني، لتكريس معادلة: "الدولة الإسلامية في مواجهة الدولة اليهودية".
يحاول الأمين العام لحزب الله اللبناني "حسن نصرالله" أن يعيد مقولة إمامه الفقيه، مؤسّس الدولة الطائفية، التي أطلقها بعد نشوب حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، أن "طريق القدس يمر من بغداد"؛ استلهم نصرالله هذه المقولة ليقول أن الطريق إلى القدس يمرّ من كلّ المدن السورية، لأنّ ضياع سورية هو ضياع القدس، وسقوط النظام السوري هو سقوط لحزب الله!
في الحقيقة، فإنّ "نصرالله" يوجّه هذا الخطاب إلى طرفين أساسيين، ويرسل لكلّ طرف منهما رسالة واضحة ومحددة، الطرف الأول هم السوريون واللبنانيون المؤيدون، والطرف الثاني هم المعارضون له من اللبنانيين، والذين يقاتلونه من السوريين، هذه الرسالة مفادها أنّ أحداً لن يخرج من هذه الحرب، وأنّها لن تنتهي إلا بفناء أحد طرفي القتال، وتحوّل الحرب إلى حرب وجود "إما أنا أو أنت"، وهو كالعادة يصرخ بصوتٍ عالٍ، ليقنع مؤيّديه أنه سينتصر! فلا داعي لبكاء الثكالى أو الاحتجاج- ولو بالدموع- على فاتورة الدم الكبيرة التي يدفعها حزب الله من أبنائه، في حربٍ لا أحد يعرف نتائجها في المستقبل، إلا أنّ الوازع الديني الذي بدأ به حزب الله، من تبرير التدخل في سورية بحماية المقدّسات، والذي انتهى الحديث به، وانتقل إلى خانة السياسة، وخطّ المقاومة والممانعة، وبالتالي القدس التي تتاجر بها كلّ الأنظمة الديكتاتورية، من "جمال عبد الناصر" إلى "حسن نصرالله"، والتي تمثّل كبش الفداء لتبرير القتل المعلن..
أمّا الطرف الثاني، وهو الطرف الأهم بالنسبة لـ"نصرالله"، فهو يدرك تماماً أنّ إسرائيل تريد أن تعرف الإستراتيجية، التي يريد أن يعمل عليها حزب الله في سوريا، خاصة بعد الهزائم التي تكبّدها في سورية، فهل ينوي أن يغامر بعملية مفاجئة ضد إسرائيل، كتلك العملية التي قتل فيها ضابط إسرائيلي في الطرف المحتل من مزارع شبعا منذ عدة أشهر، لاسترجاع بعض سمعته التي أهدرها في سوريا؟ أم أنه يريد أن يبقي الصراع داخل سورية لاسترداد سمعته؟ لذلك أرسل "نصرالله" في رسالته تطمينات عديدة لإسرائيل، أنّه ليس في نيّته القيام بمغامرة تستهدف إسرائيل، وأنّ جبهتها الشمالية ستبقى هادئة، لأن الطريق إلى القدس -أو إسرائيل- يمرّ من الزبداني، والقلمون، وكلّ المدن السورية، أي أن المشوار طويل، ولن تكون هناك مواجهة في المستقبل أبداً!
يأتي الاحتفال بيوم القدس العالمي في دمشق، والذي رُفع فيه علم حزب الله، والعلم الإيراني، فوق الجامع الأموي، واستثني العلم الفلسطيني أو علم القدس، ليس فقط بمثابة رسالة طائفية من إيران الشيعية للمحيط السنّي، بل لتسريب معلومة بأنّها استطاعت أن تحتلّ عاصمة الأمويين، وبغداد عاصمة العباسيين، وأنّها تمكنت من إعادة الإمبراطورية الصفّوية، في رسائل واضحة لأنصار "الإمام الفقيه"، الذي استطاع تحقيق الحلم، ولابدّ من تضحيات أكبر للحفاظ على حلم الدولة الصفّويّة، عبر إرسال مقاتلين أكثر إلى ساحات المعارك، التي تبدأ من ساحة الجامع الأموي، باتجاه ساحة المسجد العمري في درعا، مجتازة كلّ المدن السورية، التي عدّدها "نصرالله"، العميل العربي للمشروع الفارسي.
على الرغم من تصريحات رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق، أنّ سوريا ستختفي عن الخارطة قريباً، وتصريحات وزير الدفاع الأمريكي، عن أن الحرب في سوريا قد تستمرّ ثلاثين عاماً، تصرّ إيران على دعم النظام السوري، بإمداد جديد بقيمة مليار دولار، لمتابعة الحرب ضد الشعب السوري، لتستحوذ هي على دمشق، وتطرد سكانها، والحقيقة أنه ليس هناك تعارض فعلي بين تصريحات المسؤولين الأمريكيين والدعم الإيراني، فهي تريد أن تحصل على دمشق لرمزيتها الثأرية، والساحل مع القسم الأكبر من لبنان للوصول إلى البحر المتوسط، وبالتالي يمكن النظر للمعارك التي تخوضها المليشيات الطائفية من حزب الله والعراقيين، في القلمون والزبداني، على أنّها تثبيت للحدود الافتراضية، أما معركة حلب فهي لا تعني لها كثيراً، إلا في تأخير معركة دمشق إلى حين إيجاد حل سياسي شبيه بحل "دايتون"، الذي فرض في البوسنة والهرسك، بعد حرب إبادة على مدى ثلاث سنوات؛ هذا الحل الذي كان يصطدم بالتشابك الديموغرافي للمناطق التي تريد السيطرة عليها، فهي تعمل بشكل جاد إلى حلحلة هذا التشابك، عبر استملاك حكومي للعقارات، وطرد أصحابها، مستغلة المؤتمرات التي تقترحها روسيا لإطالة الوقت، وعند الانتهاء من هذا التغيير سيكون هنالك أحد احتمالين: إما إنهاء بشار الأسد لصالح شخص علوي أو علوي متشيّع لحكم هذا الكانتون، أو ربما يكون بشار الأسد رئيس هذه الدويلة، وفي كلتا الحالتين ستكون محافظة إيرانية بكل معنى الكلمة!
مما لا شك فيه أن حزب الله، ومن ورائه إيران، يعملان على إستراتيجية أصبحت مكشوفة إلى حدٍّ كبير، فبعد كلّ خسارة فادحة في الأرواح في صفوف عناصره، يفتح معركة جديدة ويعمل على الضخّ الإعلامي الكبير لها، والحقيقة أن استبسال الثوار السوريين لم يصمد طويلاً أمام كل أنواع السلاح المدمّرة الذي تقصف به هذه المدينة، وبعد احتلالها يخرج علينا "نصرالله" بنصره "الإلهي" ليخرس أصوات أهالي قتلاه، ليقول لهم وبطريقة حاسمة أنّ النصر أهمّ من أولادكم، فمعركتنا معركة بقاء ووجود، والحقيقة أنه صادق هذه المرة، لأنّه لا مكان لأحد طرفي القتال في المنطقة، فإمّا قاتل أو مقتول؛ هذه هي المعادلة التي يعمل عليها كلّ أطراف الصراع في سوريا، على المستوى الإقليمي والدولي، ولم تعد الحرب الباردة لها مكان، مع ارتفاع درجات حرارة الطائفية!
التعليقات (2)