نعم.. خرجت من "سوريا الأسد"!

نعم.. خرجت من "سوريا الأسد"!
بعد أن اتخذت قراري الخروج من سوريا، شعرت بشعور غريب، شعورهو مزيج من الهواء الثقيل والحرية الفردية التي ما عشتها أبداً رغم بلوغي الخمسين، في هذه اللحظة التي أجلتها ثلاث سنوات قضيتها في متابعة أدق الأخبار العسكرية والسياسية والأمنية الخاصة بكل منطقة في سوريا، في هذه اللحظة تدفق عرق غزير من كامل جسمي، كأنه الخوف المطلق وقد تجلى في لحظة واحدة، أو لعلّه تراكمات خوف أربع سنوات وربع السنة من القصف والقتل والموت، وانتظار الاعتقال أو الخطف أو الموت عبر قذيفة عابرة.

أعرف أن مئات الآلاف من السوريين سبقوني وهربوا من صورة الطاغية بشار البغدادي الجولاني، وأعرف أن نهر بكاء ينتظرني عندما أصل لبلد آخر غير سوريا، بلد لا تطلب فيه هويتي عشرات المرات وتفيّش، وأعرف أيضاً أن محاولة تعلم لغة أجنبية في عمر الخمسين يشبه تعلم السباحة في عمر المائة، ولكن لابدّ من الهرب فصوت ابنتي ووجهها جعلاني أترك كل شيء وأخرج هارباً، لا من أجلي، من أجل أن تعيش في بلد لا توجد فيه صور بشار وشركائه، من أجل أن تتعلم في مدرسة لا تحفظ فيها غصباً عنها أن "القائد الخالد حافظ الأسد" هو من حرر القنيطرة و أنه بطل قومي وعروبي، ويجب أن تحفظ بصماً ذلك بينما وفي نفس اللحظة التي تقرأ فيها ذلك مدافع بشار تنهمر على دوما وداريا وجوبر.

أن أهاجر من أجل ابنتي يعني: أن تتعلم في مدرسة لا يكون فيها مدير المدرسة مخبراً لكل فروع الأمن، ولا يكون فيها مدرس الاجتماعيات عنصرا في كتائب البعث، ولا يكون فيها المستخدم مخبراً للمدير، ولا أضطر إلى ايصالها يومياً إلى باب المدرسة وثم إرجاعها، لتسمعني في البيت تلك الأغنية التي حفظتها في المدرسة: "نحنا رجالك يا بشار".

أريد لابنتي أن تحبّ وترفع صوتها باسم حبيبها، أن تعشق الشعر والفن والسباحة، أن تكتب ما تريد بلا خوف ولا رعب، أن تعيش في بلد لا توجد فيه قيادة قطرية ولا أربع أفرع للأمن تحصي أنفاس الناس، أن تعيش في بلد تنام فيه مطمئنة على حياتها.

أريدها أن تتعلم في جامعة لا تمجد آل الأسد و"أمجادهم الأسطورية"، و ألا تتعلم أي شيء، أريدها فقط أن تعيش كما تريد، دون أن تلاحقها المخابرات بسبب قصيدة شعر. أريدها أن تلبس ما تريد هي لا ما تريد داعش والنصرة، لا ما تريد منظمة طلائع البعث والشبيبة..

ومع ذلك وحين ودعت أصدقائي قبل السفر سبحت في الدموع، كنت هارباً منهم لأنني أحبهم، هارباً من الموت الذي ينتظرنا مع كل دقيقة، مع كل خطاب أو ضحكة للوريث.

ولعل شبيح ما يرتدي قفازات الوطنية في الداخل سيقول أنت هربت من "حضن الوطن" يقول ذلك وهو ينظف باروته الروسية على أنغام أغنية أذينة العلي وهو يغني "يا أمي يا سوريا".

نعم يا عاشق أذينة العلي وعائلة الديك الأسدية، ويا عاشق العبودية، هربت من الذل الذي كان يلاحقني على باب الفرن حيث بنادق الأمن تعربش على شرف الناس وتدوس كراماتهم، حتى في نافذة الخط العسكري لا يقف هؤلاء القتلة، نعم هربت من الشبيحة وهم يسرقون عمرنا وحياتنا وما تبقى من أحلامنا. هربت من الرئيس و نائبته العطار، ومن وزير إعلامه. "الصحاف الزعبي".

هربت من البلد الذي صار كله حواجز لبشار وشركائه، وعلى كل حاجز ينظر الموت لك من خلال عيون العسكري الراصد لأنفاسنا، هربت من أكوام الشعارات وهي تخنقنا في الطرقات، من صور الوريث وعائلته ومن ضحكته البلهاء ونظرته، وهربت من النفاق والكذب من التلفزيون "الوطني" وهو يرقص فرحاً على أجساد أطفالنا الذين يقتلون عبر براميل بشار.

هربت أيها القاتل من التعفيش ومن القتل والخطف، من الغلاء القاتل، من تجار "القائد" وهم يمصّون أرواحنا بأسعارهم "المدروسة".

ولعلمك أيها العفيش، كان عندي سقف، ولكن لم أشعر فيه بالأمان والفرح، حتى عندما نضحك كحل حياتي ناجح لمواجهة الحياة، كان الخوف يتسلل مع الضحكة، نحن رضعنا الخوف لا حليب أمهاتنا في ظلّ رايات البعث " الخفاقة".

أعرف أن بقية بلدان العالم ليست جنان الخلد، وسوريا الناس تسكنني أينما رحلت، وأعرف أنّي قد لا أعود، ولكن لديّ إحساس أنني هنا سأقدم لها ما لم أستطع أن أفعله وأنا محبوس في حضن المخابرات والكتائب والحواجز ودفاتر البعث.

هربت من سوريا الأسد، لأصنع في غربتي وطناً من القصائد تعيش فيه ابنتي، لأصنع معها خيمة من حروف الحياة، خيمة هجرة مستمرة.

ويكفيني هنا أن أسمع من ألتقيهم أن هناك سوريين يستحقون العيش بكرامة وقد هتفوا للحرية، ومازالوا يهتفون، وأنهم يحتاجون فقط لمن يحميهم من هذه الإبادة الجماعية المستمرة بحقهم، ليبنوا سوريا كما يشتهون.

كاتب سوري

التعليقات (6)

    مضر علي

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    هذا هو السوري عندما يخرج من قوقعة الخوف ... مبروك أستاذ مصطفى تحررك من الخوف ...نعم بكيت عندما خرجت من القوقعة ...كما يبكي الوليد عندما يخرج إلى الدنيا... كنت أقرأك في جريدة تشرين وكانت مقالاتك مميزة..وما زالت...ننتظر منك المزيد ...فما يجري لايعالج فقط باستئصال كل مع أجرم من كل الأطراف بحق الشعب السوري، وإنما بأقلامكم أيضا أيها الصحفيين الأحرار...لنبني معا سوريا المستقبل سوريا الجميع...

    Hassan

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    شكرًا لك لكن كتيير طولت لحتى تركت

    123333

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    حياك الله في اي بلد تحط الرحال فيه فان الله مع الغرباء والمظلومين اينما كانوا وحيثما حلوا وارجوا الله ان يعيدنا واياك الى حضن سوريا الامل وليس الفسدعما قريب وهذا ليس على الله بعزيز .وكل شيء له ضريبة مستحقة الدفع وها قد دفعنا ولكن النتيجة التطهير من الاوغاد وبناء ارض الامجاد من جديد باذن رب العباد....

    نور الدين

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    كلماتك لا مست شغاف قلبي رغم ما ببننا من اختلافات في الأفكار و الرؤى و لكن يجمعنا حب الخير للوطن و الرغبة في الخلاص من العبودية ، سر على طريق الحرية فكلنا مشرد و كلنا مبعد و كلنا نحب سورية الحرة .

    د. حسام الحفار/المانيا

    ·منذ 8 سنوات 10 أشهر
    الأستاذ مصطفى المحترم لقد سبقني من علق قبلي على مقالتك المعبرة والرائعة, بحيث اني لم أعد اجد ما اضيفه سوى أن أؤكد على ماكتبوه واثني عليه, سوى انك مخطأ في امر أستاذ مصطفى, في سوريا لا يوجد اربع فروع أمن وانما اكثر من ثمانية فروع أمنية عدا عن الشبيبة واتحاد الطلاب والنقابات ودار افتاء حسون والاتحاد النسائي والقبيسيات..الخ, جميعها فروع أمن أو بالحد الأدنى هي في خدمة الافرع التي يتعدى عددها الثمانية. ارجو ان لاتقع في مثل هذا الخطأ مع تحياتي

    قارىء مسيار

    ·منذ 8 سنوات 7 أشهر
    كان لازم من زمان تعرف الأغنية من مقدمتها الموسيقية من لما كان البواب تركي صقر أكيد راح يدخل الزعبي وشحادة وعمران
6

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات