الإســــــلام والموقـــف من الآثــــار!

الإســــــلام والموقـــف من الآثــــار!
لم يتخذ الإسلام موقفاً سلبياً من الآثار، بل على العكس تماماً فقد جعلها الله تعالى حجة على الناس في أكثر من موقع في القرآن الكريم، ولكن ثمة إشكالية قائمة حول اختلاف مقاصد علم الآثار، إذ من المؤسف ضعف وتغيب علم الآثار الإسلامي أو العربي إن صحت التسمية، في حين شهد علم الآثار الغربي نهضة غير مسبوقة.

ومع تصاعد الاعتداءت المؤسفة على الآثار في العديد من الدول العربية، بات من الضرورة بمكان إجراء المقاربة الإسلامية الصحيحة حيال الآثار، وضرورة التفريق بين «عبادة الأوثان» المنقرضة، وبين الآثار كونها عبرة للناس ولهم فيها مقاصد أخرى، كخدمة العلوم ومعرفة فنون الأقدمين في الهندسة والعمارة، ومن أسس تلك المقاربة، اعتبار الآثار مفتاح الكثير من العلوم المفيدة للناس، والإسلام يحث على النفع، وفي ظله وأوج نهضته تقدم الكثير من العلوم، لا بل استحدث بعض العلوم التي لم تكن معروفة للناس، وعادت على الإسلام والبشرية جمعاء بالخير والنفع الكثير، وفي ذلك مقاربة لقول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): «الخلق كلهم عيال الله وأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله».

أما المقاربة الثانية في الحفاظ على آثار الأولين فتقوم على ما فيها من موعظةٍ حسنة للناس، «وادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، ومن غير المعقول أن يأتي مخلوق ويتعدى على إرادة الخالق، ويدمر أشياء شاء الله لها أن تبقى وجعلها حجة على الناس، ولتبيان هذه المقاربة قد لا نجد أبلغ من قوله تعالى في سورة غافر «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (82)، وقد أتى قول الله في هذه الآية تأكيداً لما سبقها في الآية 81 «{ وَيُرِيكُم آياته }، ووفق المفسرين فإن السير في الأرض هنا المقصود فيه سير استفهام واستدلال، وبحث عن الآيات أي الأدلة في آثار الأولين، وكلا الآيتين أيضاً متصل بما جاء في الآية رقم 80 بقوله تعالى» {وَلِتَبلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم وعَلَيها وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ }، وعليه نستدل بأن الحفاظ على الآثار هو من سنن الله في الأرض، إذ لا يأمر الله باقتلاع علامات أوجدها هو للناس ليستدلوا بها على وجوده، وإلا ما معنى قول الله عز وجل لفرعون في سورة يونس «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ» صدق الله العظيم.

أما المقاربة الثالثة فتقوم على الفصل بين النهي عن عبادة الأوثان على اختلافها، وبين الموقف من الأشياء التي عبدها البعض شركاً في وقت من الأوقات، ففي وقت من الأوقات عبد بعض الناس الكواكب والشمس والقمر، وهي مخلوقات سخرها الله لخدمة الكون والناس، فهل يعقل أن نتخذ موقفاً سلبياً من الشمس أو القمر وسواهما، وهذه الأشياء الكثيرة عبدها البعض اعتقاداً منه بأنها «تقربهم إلى الله زلفى»، يقول عز من قائل: { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } صدق الله العظيم.

فهل من يستطيع إلى الشمس سبيلاً سيدمرها لأن بعض الجهالة عبدوها! ... فيما اتخذ البعض من الحيوانات آلهة من دون الله، مثل العجل في قصة السامري وبني إسرائيل، ومثل النسر وسواه، فهل يستقيم الدين بإبادة كل العجول أو النسور، كما عبد البعض الشجر فهل المطلوب اقتلاع كل الشجر من على وجه البسيطة، الأمر ببساطة أن دين التوحيد جاء ليقوم اعوجاج الناس، وثنيهم عن عبادة ما لا ينفع ولا يضر احتراماً لعقولهم ومكانتهم البشرية، بيد أن ذلك لا ينقص من قيمة الأشياء التي خلقها الله للناس ولهم فيها منافع كثيرة، كالشمس والقمر والحيوان والشجر وكذلك الحجر بوصفه آثر.

وفي قصة إبراهيم عليه السلام عبرة كبيرة، إذ لم يستهدف الأصنام لذاتها بل للنهي عن عبادتها، ولإجراء المناظرة مع قومه، ولو أنه حاربها لذاتها ما أبقى كبيرها، بل أبقاه لإجراء المناظرة وإقامة الحجة، بأن هذه الأصنام لا تنطق ولا تأكل ولا تدافع عن نفسها، ولا تأتي بأي فعل من قبيل ما قاله إبراهيم سخرية، عندما سئل من فعل هذا بآلهتنا فقال كبيرهم هذا، وقال تعالى في سورة الأنبياء: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } <الأنبياء: 51-70> صدق الله العظيم.

المقاربة الرابعة تقوم على احترام عقول البشر، والله فعل ذلك بأن أمر الناس بالتفكر في خلقه، وفي الاستدلال عليه، فلماذا يصر البعض على عدم احترام عقول الناس، بعدما أصبح الدين بيناً، والقرآن في متناول أيدي الناس ويتوفر شرحه وتفسيره بكل لغات العالم، ومرة أخرى في قصة إبراهيم عليه السلام عبرة عندما نظر إلى السماء فظن النجم ربه ثم القمر فالشمس، فأفلت فقال لا أحب الآفلين، وقال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، فهو نبي وكان من الممكن أن يكلمه الله كما كلم موسى، ويدله على نفسه دون أن يعييه، بيد أن رب العالمين أراد من ذلك حكمة، وهي حمل الناس على التفكر.

ليس من الحكمة تدمير الآثار خوفاً من أن يعبدها الناس ففي ذلك استخفاف كبير في عقول الناس، علاوة عن كون ذلك الفعل بلا وظيفة، لا بل أن مخاطره تكمن في تأجيج نار الفتنة بين الناس وحملهم على الاحتراب، واستثارة غيرتهم على أشياء لم تكن ضمن حساباتهم، فلا يحتفظ الناس بالآثار بدافع ديني اليوم، بل بدافع حضاري وتاريخي وهوياتي، فأي فعل من هذا القبيل هو اعتداء على هوية الناس القومية ليس إلا، وهذا فيه إثارة لنعرات وفتن وحروب، الإسلام حث على حقن الدماء لا على إراقتها على الغارب، نعم بات اليوم لازماً على الفقهاء والمشتغلين على علومه إجراء تلك المقاربات التي تبين العلاقة بين الدين والبعد الحضاري، ومشتقاته من التاريخ والتراث وعلم الآثار.

التعليقات (1)

    م م ع ق

    ·منذ 8 سنوات 9 أشهر
    الحمد لله رب العالمين
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات