فمن تمرير الوقت للأسد وظهور داعش وغض النظر عن الإرهاب الشيعي القادم من لبنان والعراق وغيرها، لاستمرار ذبح السوريين وحرف تفكيرهم ونظرتهم للحرية نحو المحافظة على الحياة والعودة للمنازل وإن مهدمة، كل ذلك كان مدروساً ومحسوباً، والحقيقة انهزمت عدة مشاريع أمام ضربات الثوار وتقدمهم على الأرض، واستطاعت الثورة امتصاص الكثير من الأزمات ووضع الإصبع على بعض الجراح، لكن الخبث العالمي، لم يكتفِ بما جنته يداه طيلة سنوات الثورة من جرائم بحق السوريين، ليفتح الآن الأبواب أمام صراع جديد يحمل في طياته تلوثات ما صنعه البعث من جهة، والجهل من جهة أخرى.
إن العنصرية القابعة في بعض النفوس كنا نعلمها جميعاً، لكنا اعتبرناها مرضاً سيتم معالجته في سوريا الجديدة عبر برلمانها السياسي، بقوانين تجمع ولا تفرق، وبالوقت ذاته تمنح الحقوق لأصحابها بحسب رؤيتهم لطريقة مشاركتهم لصنع المستقبل، وهم آمنون في ظل قوانين واضحة المعالم، إن كان للكرد أو للعرب بما فيهم الأقليات، بالتأكيد كل من خبر نظام الأسد يدرك جيداً حجم الكوارث التي ارتكبها بتدمير النفوس والنسيج الاجتماعي السوري، ولكن أن يصبح من كان شريكاً للمظلوم في تحمله تلك العصابة الحاكمة خلال عقود، شريكاً للعصابة نفسها ضد الشريك السابق، حين لاحت الحرية، فهذا أمر يحتاج للتأمل وهو الذي ربما تستند عليه مراكز البحوث الشريرة، التي تعطي الرأي للدول الشريرة، بأن بعض الشعوب تبحث عن موتها ولا تبحث عن رفعتها وحقها بالحياة، وهي قابلة للبيع والشراء والمساومة.
لا يمكن فهم التهجير العنصري الذي تقوم به بعض الأحزاب الكردية للعرب السنة وبتمويل إيراني، إلا في سياق حرب الأسد على السوريين جميعاً، كما لا يمكن التعاطي مع ما يجري بجوار مطار الثعلة العسكري بالسويداء سوى بالبحث عن خفايا هذا المشروع الإيراني في التفتيت العرقي والطائفي في سوريا من خلال الأسد، وهو ما يريح السياسة الدولية في شراء الولاءات، ويضع إسرائيل في واجهة الأحداث من جديد كونها المستثمر الأكبر في حصد النتائج، وعليه فإن الدس الإسرائيلي بالبحث عن حماية للدروز الذين استطاعوا بالتعاون مع أحرار درعا، تمرير اللحظات الأصعب والأخطر عندما كان النظام بسطوته وقوته، وبقي الوضع إيجابياً في الجنوب ولم يغص في الدم الطائفي الذي رغبه النظام، ومع تحرر جل الحدود الإدارية بين المحافظتين الجارتين، ولم تسجل خلاله أية حادثة مقلقة في تلك الحدود الطويلة، بقيت نقطة مطار الثعلة هي الوحيدة والأساسية بين المحافظتين، فوجدها النظام فرصة أخيرة لتأجيج الصراع، وابتدأت بعض النخوات الطائفية الدرزية المقبوضة الثمن لبقايا الأمن ومرتزقة حكم الأسد تعلو، دعمها النظام ولأول مرة باستعمال حجم هائل من القصف الجوي على قرى درعا القريبة للمطار، وبالغ في إشاعة دعايات أن القادمين من الغرب يقصدون المدينة.
امتاز الثوار بدرعا وأحرار السويداء بحسن الأداء، عبر التحذير المنظم والمكثف من هذا المشروع، وساعدهم مشايخ الكرامة بعدم الانجرار لصراع داخلي بالمحافظة كان يرغبه النظام للقضاء على نمو وتطور هذا التيار بالأشهر الأخيرة.
في السويداء لا يوجد سلاح بيد الأحرار يمكّنهم من قلب المعادلة حالياً، كما أن الصراع الداخلي قد تكون نتائجه وخيمة وتكسر ما تحقق خلال سنوات الثورة من المحافظة على حسن الجوار وعدم الانخراط بتلك المجزرة بحق السنة السوريين، وإبعاد أبنائهم عن محرقة النظام من خلال سحبهم من جيشه بصمت، إن غالبية المجتمع الدرزي هي غير قابلة للتمترس خلف ميليشيات النظام، وما استطاع جمعه تحت مسميات مختلفة بجوار المطار لا يغيرون نتائج معركة في مواجهة ثوار، فاعتمد النظام على المبالغة بالقصف الجوي مع ضخ إعلامي ليظهر أن السويداء تقاتل هناك، هذا المشروع ليس منعزلاً عما يجري في الجزيرة شمالاً وبعض مناطق حلب، بل يمر عبر احتلال الشيعة لقلب دمشق وكله ممول ومتكامل، وإن كانت مكاسبه لا تعود على النظام في المحصلة، حيث الأحزاب الكردية وإن بدت مستفيدة من النظام إنما لها مشروعها الذي سينقلب عليه، وما داعش التي بدورها اقتطعت مدنا ومناطق شاسعة لمشروعها إلا مطية لعبور ذلك المشروع العنصري على جسم العرب، تحت حماية طائرات التحالف، هذا المشروع الخطير في الشمال السوري يحاكي التمدد اليهودي في فلسطين في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، والاستفادة من الانكليز في تلك الفترة.
وحقيقة فقد أدخل هذا المعطى الصراع في حسابات جديدة، قد تصبح تركيا هي اللاعب الأساسي فيه، وهو عامل لا بد منه للعرب وللسوريين في التعاضد معها لتقاطع المصالح وهذا لا يعني العداء للأكراد كمكون، بل القضاء على مفاعيل ما يجري، فها هو حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي فاز في تركيا ببضعة مقاعد في البرلمان، يطل رئيسه من قناة المنار الطائفية، ليدل على ولاء غير وطني تجاه الدولة التي أوصله نظامها الديمقراطي إلى ما هو فيه، وهذا مؤشر على بعض الأحزاب الكردية وقابليتهم للبيع والشراء والمساومة.
في الجنوب، وإن بدا الأمر متوازياً مع ما يحصل في الشمال، يبقى في حدود السيطرة إن تعاملنا معه بحنكة سياسية لامتصاصه، ويمكن البناء على تصريح الدروز المستمر أنهم جزء من الأمة العربية، ومصيرهم يرتبط بمصيرها، لقطع اليد الإسرائيلية والإيرانية بآن ومنعها من اللعب بالنار.
بجميع الأحوال، ولكي نجتاز هذه المرحلة بنجاح على الثورة إظهار نوع جديد من السياسيين غير الذين عهدناهم، لهم من الحنكة ما يؤهلهم لامتصاص الأزمات ودفنها واختراق المحظور بلا دعائية إعلامية لا تقدم ولا تؤخر، بل بعمل ملموس على الأرض يقلب المعادلة، بالتوازي مع هذا السقوط المدوي للنظام.
التعليقات (5)