في أربعينات القرن الماضي ابتدأت عمليات تهجير ممنهجة للفلسطينيين من بيوتهم وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، لكن في عام 1975 صدر قرار من الأمم المتحدة، يعتبر الصهيونية منظمة عنصرية ويطالب بمحاربة تلك الأفكار، لكنه وبرغم ذلك لم ينل الفلسطينيون سوى جرعات مسكنة، فذهبت جرائم الصهيونية في ملفات التوثيق، وعليه إن كنا واقعيين بنظرتنا لما يجري على الأرض السورية، من جرائم تطهير عرقي تتم بشكل ممنهج، لا يجب الركون إلى ما تقدمه وثائق وجداول مقدمة من هنا أو هناك إلى هذه الجهة الدولية أوتلك، فالسوريون يعرفون الجغرافيا وما يجري عليها وقد صورتها عيونهم الدامية قبل كاميراتهم.
فمنطقة المزة التي ذكرها التقرير، والتي اعتبرها بداية لتشكيل ضاحية شيعية على طريقة ضاحية بيروت التي رويدا رويدا أكلت بيروت وفرضت عليها قوانينها، هي ليست المنطقة الوحيدة، فالخط الممتد من مطار المزة نحو جديدة عرطوز وتحت مسمى سكن عسكري، هي مع السومرية تشكل امتدادا تمت دراسته بعناية، حيث الجبال التي تحده من الشمال والتي تتمركز فيها قوات الحرس الجمهوري وفي وسطها بني قصر للأسد، كي يراقب ويتحكم بتشكيل امبراطوريته التي كان يظنها إلى الأبد قبل الثورة، هي الآن كلها بيد الإيرانيين ولم تعد بيده، وفي الجهة الأخرى من دمشق حيث السيدة زينب لا يخفى ما يجري بها، مضافا إليها التغيير الديموغرافي في دمشق القديمة وبعض خواصر الشام المتعددة إن في الباردة جنوبا أو في عش الورور شمالا مرورا بكفر سوسة والقدم وغيرها.
في حمص كان الاحتلال الطائفي يصنع مراكزه بصمت خلال عقود، إلى أن جاءت الثورة فأظهرت الوجه الحقيقي لمن احتل سوريا بذلك العقل المريض، لكنه بدهاء ترك لمثقفي الغفلة من القوميين واليساريين وغيرهم، تسويقه قوميا ونضاليا ليلعب هو في جسم البلد بمشرطه المسموم، حمص التي ينقل إليها الآن أهالي القرى العلوية في الغاب وإدلب، ويعطيهم البيوت التي بقيت صالحة في الأحياء السنية التي هجر أهلها سابقاً بحسب ناشطين، هي جريمة مكتملة المعالم، وإن حجم المأساة التي تعرضت لها هذه المدينة السورية، لا أظنها تتماثل مع أية جريمة ضد الإنسانية وعلى مرأى ومراقبة العالم، فالتوصيف الذي أورده التقرير في سياسة التطهير الطائفي، مستشهدا بصور الأقمار الصناعية عن أحياء سنية سويت بالأرض كي يقطع أمل العودة إليها، هو جرح عاشه الحماصنة والسوريون لحظة بلحظة.
إن التهجير العام من المدن السنية الكبرى بسبب القصف الهمجي، حيث الأرقام مذهلة لأعدادهم في دول الجوار، وعيشهم بظروف قسرية وصعبة، يذكرنا بنكبة 1948، لكن بحجم مأساوي أكبر وأشمل، رغم أن الفاجعة الإنسانية لا تقاس بالعدد بل بالأثر، فهي في سورية بحسب المعطيات متشعبة وبكافة المستويات الأخلاقية والمادية، بجميع الأحوال من وصف الوضع بسوريا بأنه احتلال فارسي، لم يخطئ، فحصان طروادة العلوي والشيعي العربي، الذي هو من صلب النسيج الاجتماعي، واستغلاله من قبل الفرس أيضا جريمة أخرى، لكن هذه الجريمة هي طوعية، قبلها من رضي أن يكون مطية بل ربما استمتع بها، وبقية النسيج السوري وبالذات السنة، هم من كانوا الضحية التي دفعت ثمن التطهير الطائفي ومازالت.
الشركات والمؤسسات والشخصيات الإيرانية ومن تبعها من سوريين كرامي مخلوف وإياد غزال، وما ذكره التقرير عن تزوير وسرقة مستندات عقارية، مع العمل الدؤوب لشراء مساحات واسعة في مواقع مختلفة، كل ذلك يجري على قدم وساق مع ما تقترفه آلة الدمار الأسدية الإيرانية، للوصول إلى لحظة إعلان فصل عنصري على أساس ديني، قد يريح إسرائيل وتتقبله لتصبح هي تركيبة دينية ضمن تركيبات نتجت بالمنطقة على صيغة الصهيونية، بل إجرام تلك الصيغ الأخرى قد تفوق على الصهيونية.
ما يهمنا في هذا العرض ليس التوضيح والإضاءة على ما ورد في ذلك التوثيق لجريمة الحرب تحت عنوان "التطهير الطائفي في سوريا"، بل للوقوف على الدرب الذي يمكن أن يهزم تلك المعادلة بناء على قوة ذاتية سورية، لا تستند على آمال بمحاكمة قاسم سليماني أو بشار الأسد أو غيرهما في محاكم دولية، بل على إغلاق كل أبواب الحوار التي أغرق بها الملف السوري، والتقدم بخطى ثابتة في معركة سورية حاسمة، تماما كما جرى في مدينة بصرى الشام، حيث الحق أصبح واقعا بيد صاحبه، فأية مفاوضات أو مؤتمرات تتزين بمقولة المحافظة على الدولة والمؤسسات والاكتفاء بالوضع الراهن، هو يعني التثبيت القانوني للتغيير الديموغرافي العنصري الذي عملت عليه إيران، ليصبح قنبلة موقوتة تنفجر بوجه أحفادنا ذات يوم تماما كما يجري ببيروت، وإن استمرار الثورة لقطع هذه اليد الإيرانية كاملة، هو رحمة لأجيال سوريا القادمة، فالسنة الذين دفعوا الثمن غالياً، هم الأمة، وعندما يتعافوا، تتعافى الأمة ومن فيها من مكونات طائفية تحت مسمى أقليات وبشكل سليم، أما رمي تهم التطرف على السنة وترك الآخرين يسرحون ويمرحون بعقدهم الطائفية بلا رادع، و فتح الباب لأبواق "مثقفة" تتلاعب بمشاعر الطوائف وتخيفهم، ليستمر التطهير بحق السنة، هو عدا عن كونه جريمة فسيكون ناراً مستعرة ستحرق الجميع.
وعلى هذا وبرغم أهمية التقرير وما تقوم به "نامه شام" كوثيقة تاريخية، إلا أن الحل يكمن في إلغاء كل تغيير ديموغرافي تم قسريا خلال حكم الأسد، وإعادة كل عقار مهما صغر إلى أصحابه معززين مكرمين، لتثبيت ذكرى شهداء ثورة الكرامة بسواعد السوريين على كامل الأرض السورية، من شواطئ البحر إلى الصحراء، ومن قلب العاصمة دمشق إلى حلب، هذا بحد ذاته انتصار لمحاكم الحق، ودفن للطائفية التي زرعها آل الأسد وملالي إيران في هذا البلد العزيز لإلغاء وجهه الحضاري.
ويمكن هنا أن نورد ما أنهت به الديلي ستار تلك المادة عن "توثيق التطهير الطائفي في سوريا"، وهو "يجب أن يعلم الشعب السوري أنه لم يكن مخطئاً عندما خرج في أذار 2011 إلى الشارع للمطالبة بالحرية والكرامة، يجب أن يعلم الملايين من اللاجئين بأنهم سيكونون قادرين على العودة إلى ديارهم وسوف تسود العدالة".
حافظ قرقوط
التعليقات (2)