ومفهوم الحماية لا يقتصر على حماية المواطن من الجرائم الجنائية مثل السرقة والقتل وغيرها من الجرائم (وإن غاب هذا الدور أيضاً في سوريا خلال حكم البعث) ولكن مفهوم الحماية في الدولة الحديثة، يتسع ليشمل حماية المواطن نفسياً ليشعر بأنه آمن في وطنه ضد غدر الزمن وما يمكن أن يصيبه جراء هذا الغدر من أمراض قد تصيبه هو أو عائلته فجأة وما ينتج عن تلك الأمراض أو الحوادث من تكاليف قد تشكل عبئاً مادياً لم يحسب له حساب. كل هذا القلق من المستقبل من الناحية الصحية منبعه بأن المواطن السوري في ظل نظام البعث غير مؤمن صحياً،
وقبل الدخول بموضوع التأمين الصحي في سوريا لا بد أن نبين مفهومه للقارئ، فالتأمين الصحي بمفهومة الحديث ظهرت أول وثيقة له على مستوى العالم في ألمانيا عام 1883، وهي عبارة عن إتفاق بين طرفين (مؤمِن ومؤَمن عليه) يتحمل فيه الطرف المؤمِن النفقـــات المترتبـــة على الخدمات العلاجية المقدمة للطرف المؤَمن عليه ( فرداً كان أو جماعة ) مقابل مبلغ محدد، يتم دفعه جملةً واحدةً أو على هيئة أقساط ، ويقوم التأمين الصحي أساساً على مفهوم توزيع الخطـــر المتوقع الذي قد يواجهـه الفـــرد، مما يؤدي إلى تخفيــف الأعباء والتكاليف المترتبة عند معالــجة الحالات المرضية التي يتعرض لها المؤمـــن عليهم، وهو بذلك نظـــام إجتماعي يقوم على التعاون والتكافل بين الأفراد لتحمل ما يعجز عن تحمله أحدهم بمفـــرده، وشركات التأمين تنظم الإستفادة من توزيع الخطر لقاء أجر معلوم. وبشكل عام يهدف التأمين الصحي لما يلي:
1- إزالة العائق المالي بين المريض وحصوله على الخدمة الطبية.
2- توفير خدمة طبية متكاملة للمواطن بجودة عالية وكلفة مقبولة.
3- رفع مستوى الرضا الوظيفي والإطمئنان لدى الفرد.
4- تحسين مستوى الخدمات الطبية المقدمة من خلال توفير مصادر مالية ثابتة ومستمرة.
البعث: حجتان لإهمال التأمين!
أما في سوريا وعلى الرغم من صدور القانون رقم /1/ لعام 1979 الذي نص على إحداث هيئة عامة للضمان الصحي، فلم يحظَ التأمين الصحي بأي اهتمام من قبل حكومات البعث، وطبعاً فإن تلك الحكومات قد ساقت حجتين واهيتين لتغطية عجزها وفشلها في هذا الموضوع أولى هذه الحجج هو شعار الإشتراكية الذي رفعه نظام البعث عند استيلائه على السلطة، ورفع معه شعار مجانية العلاج للمواطنين وأن المواطن السوري ليس بحاجة لتأمين صحي كون علاجه مجاناً من خلال مستشفيات الدولة التي يتباهى النظام بها كذباً وإفتراءً، لأنها أقرب إلى مسالخ عن كونها مستشفيات من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن من يُريد أن يحصل على مستوى عالٍ من الرعاية الصحية في مستشفيات الدولة التي تمتلك حقيقة إمكانيات كبيرة، يجب أن يمتلك من المعارف الشيء الكثير ليتمكن من ذلك... وطبعاً هذا غير متوفر لكافة المواطنين لا سيما ذوي الدخل المحدود. أما بالنسبة للمستشفيات الخاصة فهذا حُلم من أحلام ذوي الدخل المحدود لن أدخل بتفاصيله وتفاصيل الفساد والطب الذي تحول فيها لتجارة.
أما الحجة الثانية فهي قيام نظام البعث بتسليم هذا الملف لنقابات مهنية هي أقرب بالحقيقة لمؤسسات تابعة له وحولها نظام البعث لمقرات أمنية منذ أن سطا عليها عام 1976، حين حل حافظ الأسد مجالس النقابات المهنية وأعاد تشكيلها بما يتوافق مع نظامه الأمني.
وبين أكذوبتي مجانية العلاج، ومسؤولية النقابات عن العلاج بقي المواطن السوري غير آمن على صحته أو صحة عائلته.
التأمين في عهد الوريث!
عندما ورث بشار الأسد الحُكم في سوريا وقرر انتهاج نظام إقتصادي مفتوح أسماه "اقتصاد السوق الإجتماعي"، كان لا بد من تغيير بعض الأسس التي رسخها والده ومنها موضوع التأمين الصحي، ولكن لم يأتِ هذا الموضوع كمطلب شعبي بسبب بسيط وهو أن غالبية الشعب السوري - وخاصة ذوي الدخل المحدود - أصبح خلال ثلاثين عاماً من حكم حافظ الأسد لا يعرف أين وصلت الشعوب الأخرى من اهتمام ورعاية طبية وصحية، ولكن جاء موضوع التأمين الصحي نتيجة تراكم الثروة في أيادي أركان النظام وأعوانه، والبدء بإحداث شركات استثمارية تولى البعض منها الجانب التأميني ومنه التأمين الصحي.
وفي ظل هذه الظروف التي اتسمت بتنامي ثروات الفساد، بدأ الحديث عن موضوع التأمين الصحي لموظفي الدولة يدور في أروقة وزارات ومؤسسات الدولة، ومن الطبيعي بأن من بدأ بترويج هذا الموضوع هو الفريق الإقتصادي في الحكومة السورية برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الإقتصادية عبد الله الدردري وعضوية عضو القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم ووزير المالية محمد الحسين. الذي لم يدخر جهداً في أي لقاء من لقاءاته دون أن يذكر محاسن مشروعه التأميني الذي وصفه بالحضاري، لدرجة أنه أصبح أشبه بمندوب مبيعات لشركات التأمين الصحي، وفجأة ودون إعلان أي مناقصة، أو دون إستشارة أصحاب العلاقة وهم العاملين في الدولة (كونهم من سيؤمن عليهم)، تم الإيعاز لمحاسبي الإدارات في الدولة بالبدء بحسم مبلغ وقدره /250/ ليرة سورية شهرياً من كل عامل في الدولة وذلك تحت مسمى بدل التأمين الصحي، وهذا المبلغ عبارة عن /37.5/% من القسط التأميني السنوي لكل عامل البالغ /8000/ ليرة سورية، على أن تدفع الدولة بصفتها رب العمل باقي المبلغ.
إلزام موظفي الدولة!
تم إلزام كافة العاملين في الدولة بتوقيع عقود تأمين صحية مع شركة خاصة هي شركة "غلوب ميد". وتم منحهم بطاقة أنيقة تبين بأنهم مشمولين بالتأمين الصحي، ولا يمكن وصف العقود الموقعة بأقل من عبارة أنها عقود إذعان، والتي نصت على أن هذا التأمين لا يشمل عائلات العاملين بالدولة بل يشمل فقط العامل بشخصه، وكأن عائلة العامل في الدولة لها من يعيلها غير هذا العامل، كما نصت على إستثناء أمراض الأسنان من التأمين. وعلى أن يترتب على المؤمن عليه أي العامل نسبة 10% من أجرة أي معاينة أو عمل جراحي أو ثمن دواء.
ولم يعترض أي عامل على ذلك لسببين الأول هو الخوف من الاعتراض على إجراءات الحكومات البعثية، والثاني عدم التعود على الاعتراض وبذلك رضي العاملون بالدولة بالأمر الواقع، وحاولوا الإستفادة منه ما استطاعوا.
تأمين بنكهة الإذلال!
ولكون المواطن السوري - لاسيما العامل في الدولة - هو الحلقة الأضعف في عالم المال والشركات والسلطة (المتمثلة بالحكومة والنقابات المهنية) فقد بدأت تلوح في الأفق تصرفات لا أخلاقية في تعامل شركة التأمين والأطباء والصيادلة وأصحاب المخابر المتعاقدين معها، ومن تلك التصرفات إذلال الموظف الذي يسعى للحصول على حقه لقاء عقد التأمين.. وأصبح الموظف يعاني من المماطلة في تقديم الخدمة الطبية له، والمماطلة عند صرف الوصفة الطبية من الصيدليات المتعاقدة مع شركة التأمين، ولدى الإستفسار عن ذلك تبين بأن شركة التأمين الخاصة تتلكأ بدفع استحقاقات الكادر الطبي المتعاقد معها، مما انعكس سلباً على جودة الخدمة المقدمة للعاملين في الدولة، وطبعاً لا يمكن لأي طرف أن يحتج كون الشركة هي شركة وحيدة تم التعاقد معها، بصفقة لا يمكن تسميتها سوى بالصفقة المشبوهة التي تجاوزت كافة أعراف التعاقد مع الجهات الحكومية. وإلا كيف تُفسر هذه السرعة الكبيرة في التعاقد من شركة "غلوب ميد" والبدء بتطبيق العقود المبرمة من خلال الحسم من رواتب العاملين بالدولة، دون التحضير لثقافة تأمينية لدى العاملين في الدولة ولمقدمي الخدمة من أطباء وصيادلة ومستشفيات ومخابر. وكذلك عدم البدء بتحسين الخدمات اللوجستية لقطاع التأمين وأهمها شبكة إنترنيت فعالة توفر على طالب الخدمة التأمينية ومقدمها فترات الإنتظار الكبيرة التي يضطر لها الطرفان لغاية إقلاع شبكة الإنترنيت ليتم ضمان حق مقدم الخدمة.
كافة تلك الإستفسارات تضع عملية التأمين الصحي التي تم فرضها على العاملين في الدولة - دون منحهم حق اختيار شركة التأمين المناسبة لهم - موضع استفسارات وشكوك كبيرة وخاصة إذا علمنا بأن عدد العاملين في الدولة الذين فُرض عليهم هذا التأمين يبلغ حوالي /1.3/ مليون عامل أي أن المبلغ الذي سيذهب لصالح شركة التأمين سنوياً يفوق العشرة مليارات ليرة سورية. ومن المؤكد فإن إجابات هذه الإستفسارات المُثارة عن عقد التأمين، لن تخرج من كون النظام السوري وحكوماته لا يعنيها بحال من الأحوال صحة المواطن السوري صاحب الدخل المحدود ولا صحة عائلته، بل أن المصلحة المالية لكبار رجالات النظام السوري المُنغرسين حتى النُخاع بالفساد مع رجال المال، وأن أي حُلم جميل للمواطن السوري يستغله النظام السوري ليحوله لمصدر جديد لجمع الثروات دون الإلتفات لآثار تدمير هذا الحُلم على المواطن السوري.
التعليقات (2)