ظهر الرجل، مُتصالحاً مع نفسه، وفكره. حين أعلن ما أراد. في لقاء مع إعلامي ، بدا أقرب لموظف، جاء يؤدي "بشغف" مهمة مُحددة، لها الأولوية، بالجزء الأول من اللقاء. مفادها "طمأنة الأقليات"، ما أمُكن.
لا يستطيع الجولاني، أو غيره، من قادة " الجهاديين"، أن يسبح عكس التيار "الجهادي". دون أن يجرف بطريقه، تنظيمه، أوربما حياته. لكن يُمكنه أن يتخذ خطاً، أكثر اعتدالاً، وتسامحاً. بشأن مواعيد، وكيفية تطبيق "الحكم الراشد"، لأسباب تتعلق بظروف "الجهاد ". وهو ما أشار إليه الجولاني، باعتباره أن " الجبهة"، هي بمرحلة "رد الصائل" عن نفسها.
يبدو، أن عدم إعلان زعيم النصرة، فك الارتباط بتنظيم القاعدة. جاء مُخيباً لآمال غالبية المُتعاطفين معها. وهم شريحة واسعة من السوريين، بكل الأحوال. بيد أن المسألة، لم تُحسم بعد. إذ ليس من السهل على "جهادي" برتبة قائد، أن يخلع بيعة موجودة برقبته، لأمير القاعدة. لكن بإمكان الظواهري، وهو من منظري "الفكر الجهادي". أن يجد المخرج اللائق، لتسوية موضوع الارتباط، بما يؤمن تماسك النصرة الداخلي. كما يحفظ "للقاعدة" رمزيتها، بأوساط "الجهاديين"، وهذا مُرجح الحدوث.
اللافت، أن ذكاء الجولاني، لم يقتصر على تجنبه بيعة البغدادي، بالقفز إلى بيعة الظواهري. إنما يتعداه إلى الاستفادة من تجربته في العراق، حيث أبدى مرونة أكبر، بالتعاطي مع البيئة السورية، التي ينشط فيها تنظيمه. سواء برفض مبدأ "التكفير" إلا "بضوابط شرعية"، يُحددها أصحاب "الرأي". أو بتجنب التشدد بالتدخل، في طريقة الحياة اليومية، لأهالي تلك البيئة. أو تفادي استهداف الأقليات. ثم الأهم، تركيز الجبهة على توجيه ضرباتها لكتائب الأسد. كذلك، حرصها على صد الشبيحة، والميليشيا الشيعية. التي مارست فظائع،
لا تقل وحشية عن "داعش". ذلك أن التطرف الديني مُتشابه، ولا فوارق تُذكر بين الأصوليات. إن كانت إسلامية، مسيحية. أم سنية، شيعية، علوية. بغض النظر، عن "الأصولية" المطلوب رأسها حالياً، في السوق الدولية.
لم يكن الجولاني موفقاً بتلميحاته المُتكررة، بشأن الدولة الدينية القادمة، ربما درءاً لمزايدات "داعش" بالدرجة الأولى، أو غيره. عبر ترسيخ صورة الجبهة، كحركة جهادية. تسعى"لإعادة سلطان الله إلى أرضه". ذلك أن فكرة" الدولة الدينية" المأمولة، ليست محل اجماع لدى الأكثرية السنية. بل يُمكن الجزم بأن "غالبية الأكثرية"، لا تُريدها. لعوامل تتعلق بطبيعة المجتمع السوري "الوسطي". إضافة إلى
ما تفرضه حياة الريف، من انفتاح اجتماعي ونفعي، داخل تلك المجتمعات، امتداداً إلى محيطها. دون تمييز ديني، أو عرقي.
فيما، لا يبدي سكان المدن السورية "العريقة بالتجارة"، أي ميل نحو "سلطة دينية"، لم يعرفوها أصلاً، بالمعنى المقصود الفعلي، على مدار تاريخهم الضارب بالقدم.
المؤكد، أن الجولاني "السوري"، ليس غافلاً، عن استحالة تنصيب "سلطة دينية"، على مجتمع، تُقارب نسبة الأقليات فيه 40%. وخلافاً لإرادة "أكثرية الأكثرية" السنية. إلا إذا كان المطلوب، هو الدخول في "حروب"، لا هوية ايديولوجية واضحة، أو نهاية مُحددة لها. ويُفترض أن الرجل، وفقاً لأدائه حتى الآن، لا ينوي التأسيس لها. عدا اختياره مكتب محافظ إدلب الفار، لظهوره المُتلفز.
المحافظ، هو ممثل "رئيس الجمهورية" بالمحافظة، هكذا يوصف. ما يعني أن الاستحواذ على مكتبه، هو اعتلاء لكرسي السلطة. مع راية النصرة البارزة بالمنتصف تقريباً. تُقرأ اللقطة "اجتهاداً" على الأقل، بأنها إعلان "إمارة إسلامية" بإدلب. في حين يُمكن ترجمتها بالمقابل ، على أنها، رسالة تهديد لسلطة بشار، في قصر المهاجرين، بدمشق.
على كلٍ، لا بأس، إن طمأنت إطلالة زعيم النصرة الأقليات السورية، على حساب إخافة الأكثرية. رغم استحالة الجزم بذلك، أو قياسه. في أجواء فريدة من "الجكر السياسي"، تتحكم بالمواقف المُعلنة، لطرفي "الأزمة".
تعمد الجولاني، تسمية المجموعات المُتخوفة، من مسيحيين، ودروز. خصوصاً العلويين، الذين باتوا على مرمى قذيفة، من ساحات القتال. بيد أن بوصلة المعركة هي، اسقاط "الأسد" بدمشق، على طريق القلمون. بالتالي إسقاط "الحلم" بإقامة "الدويلة" بمربعاتها "المُفيدة" الأمنية الاستيطانية، وسط البلاد. وصولاً إلى الساحل.
جاءت "جرعات" الجولاني المُهدئة للمخاوف، عابرة للحدود. باتجاه لبنان، حيث التصويب على "حزب الله"، كعدو مشترك، مع "أفرقاء" لبنانيين، ينتمون إلى طوائف، ومذاهب مختلفة. بما يُكذب ادعاءات نصر الله، حول محاربته "التكفيريين" نيابة عن لبنان.
لا شك، أن العداء "لحزب الله" بصفته، أشرس عملاء طهران، المغروز بالمنطقة. يُشكل هدفاً مشتركاً لقوى اقليمية، تسعى لإسقاط "الأسد – نصر الله، في سياق التحالف العربي بمواجهة إيران.
هذا التحالف، دخلته النصرة عملياُ، من بوابة "جيش الفتح". لذا، لا غرابة بإصرار الجولاني، على اشهار عدائه الأزلي للإدارة الأمريكية، لكن بالترابط مع التزامه، عدم تحويل سوريا إلى "قاعدة" اقليمية - دولية للجهاد.
من تحت عباءة التحالف ذاته، كرت سبُحة التصريحات الإعلامية، باحتضان الحركات الإسلامية للأقليات، وحمايتها. إثر اعتماد استراتيجية "سحب ذرائع واشنطن"، على الطريق إلى دمشق، لإسقاط بشار الأسد .. سر، لم يعد كذلك، منذ أن كشفته "أورينت نت" مؤخراً.
التعليقات (28)