لقد بدا مشهد علاقة إيران مع تركيا بالذات، شيئاً غير مفهومٍ ولا يندرج لدى السوريين الذين لايفوتون التعليق حتى على حملة لخلع الحجاب في مصر، أو لفوز الباجي السبسي في انتخابات تونس، في باب المجاملات البروتوكولية بالتأكيد... ونظراً لما قدمته (تركيا أردوغان ) من مواقف حادة لم تتراخَ يوماً مع الأسد وجرائمه منذ انطلاق الثورة، هذا عدا عن تميز الدور التركي عن باقي دول العالم في احتضان السوريين الفارين من رصاص وبراميل وصواريخ الأسد، وكذلك احتضان المعارضة، ويضاف إلى ذلك، أنها الدول الوحيدة في المنطقة، منحت السوري حق البقاء والدخول إلى تركيا حتى بدون وثائق رسمية أو منتهية الصلاحية.. كل ذلك ربما أغلق باب نقاش العلاقة التركية الإيرانية، لكن بذات الوقت لابد "للجرأة السورية أن تسول لها نفسها" السؤال عن العلاقة القوية على المستوى الاقتصادي، بين تركيا الداعمة لمشروعهم الثوري، وإيران المتهمة باحتلال سوريا وقتل السوريين!
نحاول في هذا الملف، نبش جزء بسيط ومهم من العلاقة التاريخية بين الأتراك (العثمانيين) والإيرانيين (الصفويين)، وكذلك محاولة إيجاد صيغة لتوضيح هذه العلاقة بالاعتماد على ذلك التاريخ وانعكاساته على الحاضر، لنصل إلى فهم ما يريمي إليه كل طرف في نسج مشروعه المستقبلي، مع تسليط الضوء على التطورات الراهنة، التي تشهد صراعاً مذهبياً طائفياً دامياً، بدأته طهران ومازالت لإتمام مشروعها الذي اصطدم بالثورة السورية قبل أن يتابع طريقه للنهاية، ما غّير طبيعة العلاقات التي رسمتها أنقرة (أردوغان) قبل الثورة الشعبية في سوريا!
الصراع التاريخي!
من يقرأ تاريخ العلاقة بين تركيا وإيران، سيقف على صراعٍ دامٍ وطويل لفرض النفوذ على المنطقة العربية. ولعل أهم تلك الصراعات، جاء بعد معركة (جالديران عام 1514) التي رسمت الحدود الجغرافية بين الدولتين، لتأتي بعدها سلسلة الحروب والصراعات السياسية والاجتماعية التي نشبت بين الإمبراطورية العثمانية والدولة الصفوية بين (1636-1623) من أجل السيطرة على بلاد مابين النهرين (العراق)، والتي انتهت أخيراً بانتصار العثمانيين، حيث ضمت الإمبراطورية العثمانية، (العراق) منذ ذلك الحين إليها، حتى فقدته في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
تاريخ هاتين الدولتين إذاً منذ تكوينه، تاريخ تنافس وحروب بالأساس، وما يفسر وجود الشمس على العلم الإيراني الذي اختاره الشاه إسماعيل الصفوي، هو الرد على القمر أو الهلال المتواجد على العلم التركي، في ما يدلل على أنه صراع بين الشمس والقمر، ليس هذا وحسب، فبعض الباحثين يرجع الصراع (كمسلم أبوسن)بين المشروعين، "الصفوي" الإيراني من جهة و"العثماني" التركى من جهة أخرى، حينما عمد السلطان إسماعيل الصفوى إلى إعلان تشيع إيران فى بدايات القرن السادس عشر الميلادي، وهى السنية فى أغلبها وقتذاك، وذلك لتدعيم قدراتها الصراعية مع تركيا بالروافد المذهبية .
وفي هذا يشير (د.أيمن فؤاد سيد) أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الأزهر إلى أن الصفويين بحروبهم ضد الدولة العثمانية قاموا بتفكيك وحدة الدولة الإسلامية وهو ما يؤكده السلطان عبد الحميد في مذكراته حيث يقول: "إن الصراع بين الصفويين والعثمانيين لم يكن لصالح الأمة الإسلامية بل لصالح الكفر والكافرين".
ويفسر الكاتب سعيد حوى كيف إن الانتماء الحقيقي لشيعة الدولة الصفوية ليس إلي الإسلام وإنما للعرق الفارسي وذلك في كتابه الخميني شذوذ في العقائد.
ويوضح د. ناصر بن عبد الله القفاري الأستاذ بجامعة محمد بن سعود الإسلامية إن الجانب الآخر من أثر الدولة الصفوية الذي لا يجب أن ننساه هو حروبها لدولة الخلافة الإسلامية وتعاونها مع الأعداء من البرتغال ثم الانجليز ضد المسلمين وهو ما يوضحه د.عبد الوهاب بكر أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر حيث يقول إن الحرب قد اشتعلت بين السلطان سليم الأول سلطان الدولة العثمانية في العقد الثاني من القرن السادس عشر الميلادي وبين إسماعيل الصفوي حاكم إيران انتهت بانتصار السلطان العثماني في معركة جالديران إلا أن الانتصار لم يكن حاسما وتأجل حسم القضية بعد ذلك لسنوات طويلة ظلت خلالها الحروب قائمة بين الطرفين الشيعي والسني (وفق موقع البينّة الذي يقدم رؤية سنية في الحالة الشيعية).
التهدئة التي أشعلتها إيران مجدداً
منذ تأسيس مصطفى أتاتورك تركيا الحديثة عام 1923، دخلت العلاقات التركية – الإيرانية مرحلة التهدئة، وتوقف الصراع المبني على الأساس المذهبي الذي كان حجة الحروب التاريخية بين الدولتين، بل على العكس، كان شاه إيران رضا بهلوي يعتبر (أتاتورك) مثالاً يحتذى به في السعي نحو العلمانية والعلاقة بالغرب، وتحديثه (لإيران الصفوية) الغارقة في أوهامها المذهبية.
لقد شهدت العلاقات الإيرانية التركية فترة مميزة وطويلة من العلاقات الهادئة والإيجابية، لاتدل على أن الدولتين خاضتا حروباً دامية لانتزاع النفوذ، وربما أن العلاقة التي تربط تركيا بأميركا وإسرائيل، جعلت طهران تستعطف أنقرة خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية، بغية الحفاظ على جسرٍ سياسي مع تلك الدول دون أن تنزع صبغة مشروعها "الثوري"، وفعلاً لم تسعّ إيران إلى تصدير ثورتها وتغذية أي حركة سياسية في تركيا، كما فعلت في العالم العربي وباكستان وأفغانستان، ربما لمخاوف من قيام تركيا بتغذية النزعة الانفصالية لدى (الأذريين) الذين يشكلون نحو ربع عدد سكان إيران، لكن ما أن تخلصت من نتائج حربها مع العراق ودخولها فترة الراحة الحقيقة، حتى بدأت التحرش مع نظام الأسد (الحليف لإيران) بتركيا، وذلك عن طريق دعم حزب العمال الكردستاني وغض النظر عن نشاطه في سوريا وإيران، واشتدت هذه الأزمة خصوصا بعد اغتيالات عديدة طالت كتابا وصحافيين أتراك، كانوا ينتقدون السياسات الدينية في عهد الرئيس السابق (هاشمي رفنسجاني)، حيث اتهمت أنقرة طهران بالتورط في تلك الاغتيالات، فردت طهران باتهام أنقرة بدعم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وحركة "مجاهدي خلق".
إيران الغازية وتركيا النائمة!
لا يمكن تفسير ماجرى خلال عشرين عام من ثورة الخميني وتمددها إلى أجزاء رئيسة في العالم العربي بهذه السرعة، سوى أن أمرين قد حصلا وشكلا خطراً كبيراً، وهما غياب الإرادة العربية سواءً القومية أو الدينية (أولاً)، وغرق تركيا بمشاكل داخلية واكتفائها بمهاجمة كل دولة تغذي المجموعات التي تعتبرها إرهابية على أراضيها (ثانياً).
يقول الكاتب وضاح شرارة في أحد فصول كتابه (طوق العمامة) الذي يشرّح آلية الدولة الإيرانية الخمينية في معترك المذاهب والطوائف:
"إيران أولا وقميص فلسطين وكوفيتها… والذي رغم أنه يمثل السياسات الإقليمية الإيرانية الخمينية التي أرادت الاستيلاء السياسي على الدول والمجتمعات العربية عن طريق حيازة القضية الفلسطينية’ إلا أنه تحول في السنوات الأخيرة إلى موضوع منازعة داخلية في إيران حين تجرأ المتظاهرون الإيرانيون في يوم القدس (18 أيلول / سبتمبر 2009) على الهتاف: ‘لا غزة ولا لبنان، أرواحنا فداء إيران’ منكرين على هذا اليوم العتيد علته ومسوغاته"!
والمعروف أن يوم القدس أعلنه الخميني لأول مرة عام 1988 عشية انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية، ويفسر المؤلف بلغة حادة حاجة إيران الخميني ومن اتى بعده إلى قميص فلسطين بالقول:
‘فإيران الإمامية والمتشعية (استثناء) في العالم الإسلامي الذي يغلب عليه أهل السنة غلبة عددية ساحقة، ويشكل العرب الإماميون (اي الشيعة) قلة ضئيلة في العالم العربي السني في معظمه… ليس في وسعها، ووسع إمامها ومرشدها الطموح إلى قيادة الأمة الإسلامية، وانتزاع القيادة بشقيها الإسلامي والعربي، إلا من طريق إسلام يجمع – على رغم الانقسام المذهبي على قضية واحدة’ .
لقد دخل "مشروع الخيميني" العالم العربي السني، مستغلاً غياب الدور التركي وتقوقعه داخل الجغرافيا التركية الحالية، وعدم اكتراثه إلى ماتفعله إيران، وساعد إيران على ذلك وجود نظام عربي هزيل مشغول بصراعات بين بعضه البعض وفي معظم الأحيان في قمع الشعوب وتجهيلها.
تركيا ليست إيران!!
من جديد.. تخرج أصوات من هنا وهناك لتتحدث بكثير من الريبة عن نوايا تركيا بالسيطرة على العالم العربي السني، وذلك على طريقة "الخميني الإيراني" ، وهناك من يرى أن " العثمانيون الجدد" استفادوا من أخطاء "الفرس" في غزوهم للبلاد العربية السنية، حيث أن إيران دخلت خلسةً إلى الوطن العربي أو بسبب عوامل ذكرناها سابقاً، ولهذا لم تلقَ أي صعوبة في هذا "الغزو"، وكذلك في بناء مليشياتها كـ (حركة أمل) ثم (حزب الله) في لبنان، وليس آخرها مليشيا (الحوثي) في اليمن، ربما لأنها موّهت على ذلك بإنشائها تلك المليشيات تحت راية مواجهة إسرائيل، وكذلك في دعمها لحركات المقاومة الفلسطينية السنية التي كانت فكرة دعمها "خمينية" لتنفيذ فكر تصدير الثورة والدخول إلى العالم العربي (كما ذكرنا سابقاً)، وأمام الحالة الإيرانية تظهر أصوات "لاتسمع " كثيراً، فحواها أن إيران استطاعت الدخول إلى العالم العربي دون إذن ودون مضايقات من الشارع العربي، على الرغم من اختلاف العقيدة التي ينتمي إليها "الفرس" و"العرب" ، وكذلك إلى تاريخ العداء بين الطرفين، فماذا لو قررت تركيا تكرار هذه التجربة؟؟، ربما أن تلك الأصوات تدلل، على الترحيب ببناء تحالفٍ متين مع " الإيدلوجية التركية الحالية" وخصوصاً في الشارع السوري "البوابة"، حيث أن تركيا تشترك في المذهب الديني وأنها تعي خطورة المد الشيعي، كما أن السوريين ليسوا مكترثين لما نشره النظام الأسدي عن تاريخ العثمانين "الشنيع" فلم تعد روايات النظام عند السوريين إلا أكذوبات تاريخية مزيفة، فعملية التقييم تغيرت بعد أن دمر الأسد مابناه العثمانيون من مساجد ومدارس وشوارع وأحياء خلال أحداث هذه الثورة.
ولكن في هذا جانب مهم يجب توضيحه في فرضية "اقتحام" تركيا للعالم العربي، وخصوصاً في شكل هذا التدخل وفي شكل الفكر والإيدلوجية، وفي الناتج الذي سيجنيه "العربي" في حال نُفذت "الخطة الافتراضية أو الوهم في أبعاد ماقدمتها تركيا من خدمات إنسانية"، ومقارنته مع التدخل والغزو الإيراني لأربعة بلدان عربية، فقد يفهم شعار " تركيا ليست إيران " على أن تركيا ليست مهتمة بإعادة إمبراطوريتها من خلال السيطرة ولو على الولاء السياسي لبعض الدول ، لكنه هذا الشعار في الحقيقة، يدخل في مفهوم أعمق من ذلك بكثير.
تقول الكاتبة (وداد بيلغين) في مقال نشر لها في جريد أكشام التركية مؤخراً: "لم ننسَ بعد، تجمع البعض في الشوارع بذريعة جنازات الشخصيات التي فقدت حياتها وهم يطلقون شعار " تركيا لن تكون إيران"، فهذا الإدعاء الذي كان مطروحاً في تلك الأيام هو "تعمل إيران على تصدير الثورة الإسلامية ونشرها، لهذا فهي أكبر أعداء النظام الكمالي في تركيا" ، كان الهدف من هذا الشعار تخويف الأتراك من تغير النظام العسكري ومؤسساته الراسخة في أول الطريق.
وتضيف الكاتبة "عندما طرحت قضية حرية اللباس في تركيا، تحولت قضية الحجاب إلى قضية مع النظام من خلال رمزيتها" وقد شيعت بين الناس مقولات بأن إيران تبذل جهوداً لنشر غطاء الرأس"ووصل الأمر إلى نشر إشاعة أن "إيران تدفع لمن تغطي رأسها" .
المفاجآة .. تقول الكاتبة: أين يقف أولئك الذين نشروا تلك الشائعات وأرعبوا البشر من التفكير بازاحة العسكر من الحكم تحت شعار" تركيا لن تكون إيران" ... أين يقفون اليوم؟ تجيب الكاتبة: يقفون إلى جانب بعض، الكماليون الأتراك، والبعثيون السوريون، وملالي إيران، ومخابرات النظام العالمي... فـ"العلمانية" هي مشكلة الذين كانوا يطلقون شعار: "تركيا لن تكون إيران" بالأمس، بل مشكلتهم أنهم يمثلون النظام العسكري المعادي للديمقراطية، ويلتفون حول هذا المفهوم. ولأنهم على هذا النحو يعقدون التحالفات اليوم مع إيران ونظام البعث في سورية. ليست مصادفة أن يدافع حلفاء إيران في تركيا عن بنية تركيا العسكرية غير الديمقراطية باسم العلمانية، لأن إيران هي التي تحافظ على الديكتاتورية في سورية بدعمها العسكري المباشر عبر مخابراتها وحزب الله التابع لها، وماقالته الكاتبة ربما يأخذنا إلى الجواب عن سبب فترة الهدوء التي تمتعت بها إيران وتركيا بعد تأسيس الجمهورية " الكمالية"!!!!
تركيا "الأردوغانية" وإيران!
يقول د. آرشين أديب مقدم رئيس مركز الدراسات الإيرانية في جامعة لندن " استقرت العلاقات بين إيران وتركيا في العقد الماضي بشأن ثلاثة مواضيع ذات اهتمام مشترك: التعاملات الاقتصادية، ورفض انفصال كردستان، وإلى حد أقل، دعم قيام دولة فلسطينية. وعلى الرغم من المنافسة والخلافات فيما بين الطرفين، وخصوصًا حول سوريا وآسيا الوسطى وعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، فقد ساهمت هذه المواضيع الثلاثة في استمرار العلاقات الودية، تخللها هبّات من التنافس الشديد بين البلدين.
يسرد الدكتور (مقدم) تاريخ العلاقة مع طهران منذ اعتلاء حزب العدالة والتنمية سدة الحكم عام 2002 حيث يقول "كانت إيران بالفعل قد حددت على شاشة الرادار وبشكل أكثر وضوحًا بروزًا من قبل الجيل الأول من الإسلاميين الذين تولوا السلطة في تركيا، والذين قاموا بإعادة توجيه السياسة الخارجية التركية بشكل أكبر نحو غرب آسيا وشمال إفريقيا. اختار نجم الدين أربكان، والذي جاء إلى السلطة في عام 1996 كأول رئيس وزراء للبلاد يحمل قناعات إسلامية، إيران كأول محطة في زياراته الخارجية وهو ما شكّل إهانة كبيرة للنخبة المؤيدة للغرب في بلاده. كانت هذه النخبة ترى أن الجمهورية الإسلامية تمثل كل شيء يجب ألا تكونه تركيا (زار أربكان إيران مرة أخرى في عام 2009 بعد حظر طويل على مشاركته في الحياة السياسة التركية امتد 11 عامًا). وبينما كان في طهران في يوليو/تموز عام 1996، أنجز أربكان صفقة بقيمة 23 مليار دولار لتوصيل الغاز الطبيعي من إيران لمدة تزيد عن 25 عامًا. وقام أيضًا مع إيران بتسهيل إنشاء ما يُسمى مجموعة الثماني النامية (D-8) والتي ضمت أيضًا ماليزيا وإندونيسيا ومصر وبنغلاديش وباكستان ونيجيريا.
ولكن قاعدة نفوذ أربكان لم تكن صلبة بما يكفي لمقاومة المعارضة من النخبة المعادية للإسلاميين، ولاسيما العلمانيين من الرتب العليا في الجيش التركي الذين يتمتعون بالولاية الدستورية للحفاظ على النظام الكمالي في البلاد. وفي عام 1998، وتحت ضغط من الجيش، أعلنت المحاكم التركية عدم مشروعية حزب الرفاه الذي يتزعمه أربكان وأرغموه على ترك منصبه. قامت المجموعة الأساسية في الحزب بإعادة تنظيم نفسها تحت راية حزب العدالة والتنمية، والذي فاز في الانتخابات البرلمانية في عام 2002 وشكّل بناء على ذلك الحكومة التركية. ومنذ ذلك الحين، استقرت العلاقات التركية-الإيرانية، لكنها لا تخلو من بعض المزالق أحيانًا.
تعرض أربكان لانتقادات شديدة بسبب سياسة التقارب مع إيران. وكما قال أحد المعلقين في صحيفة تودايز زمان: "أريد أن أفهم، على سبيل المثال، لماذا كان لدى أربكان ضعف أمام الجارة إيران التي لا فائدة منها، وقد فوجئت لرؤيته يقوم برحلة صعبة في كرسي متحرك لحضور حفل استقبال أقيم بمناسبة اليوم الوطني لإيران في فندق سويس أوتيل أنقرة في عام 2010 بينما كان يرفض حضور حفلات استقبال الدول الأخرى "ليس هناك شك في أن الجيل الثاني من الإسلاميين في تركيا قد تعلموا دروسهم من رد الفعل العنيف ضد نجم الدين أربكان. وقد ظلوا حتى الآن أكثر حذرًا ويقظة في تعاملهم مع إيران، واستمر أردوغان حتى هذه اللحظة في تعزيز العلاقات مع الجمهورية الإسلامية، ليلبي على الأقل حاجة اقتصاد تركيا المزدهر للطاقة؛ حيث تعد إيران اليوم ثاني أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى تركيا (بعد روسيا).
وكما أشرنا مسبقًا، أنجز أربكان بعد وقت قصير من توليه منصبه صفقة قيمتها 23 مليار دولار لتوصيل الغاز الطبيعي من إيران لمدة تتجاوز 25 عامًا. وفي فبراير/شباط من عام 2007، اتفقت تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية، مع إيران على صفقتي طاقة إضافيتين: الأولى: تتيح لمؤسسة البترول التركية التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في إيران، وأخرى لنقل الغاز من تركمانستان إلى تركيا (ومن ثم إلى أوروبا) من خلال خط أنابيب يمر في إيران. جاءت هذه الصفقة على خلاف رغبة واشنطن في تجاهل إيران ونقل الغاز عبر بحر قزوين، وأضافت عنصرًا جديدًا من الخلاف في العلاقات الأميركية-التركية. وبالفعل بلغ حجم التجارة الثنائية بين إيران وتركيا عام 2011 أكثر من 16 مليار دولار، (ووصل في الزيارة الأخيرة لأردوغان إلى 30 مليار دولار عام 2015).
بدوره يؤكد الباحث (مسلم أبوسن) تلك العلاقة التي شهدت تحولاً شبه جذري بين تركيا الأردوغانية ماقبل الثورة السورية ومابعد الثورة، قائلاً"ربما في الوقت الحاضر قد يكون تضارب السياسات بين تركيا وإيران حول اليمن وقبله سوريا والعراق قد وضع نهاية لعقد من التواصل العميق بين تركيا وإيران ووضع القيود على تنمية علاقات أوثق في المستقبل. ومع ذلك تم احتواء آثار هذا التضارب، فلم يحصل أي تبادل للاتهامات حول دوافع كل منهما في اليمن كما حدث في الحالة السورية من قبل.
ورغم الانتقادات التي وجهها الرئيس التركي "أردوغان" بشدة للدعم الإيراني للحوثين وقوله صراحة بأن هذا يزعج تركيا ولا يمكن تحمله بل وأبدى استعداده لدعم العملية العسكرية "عاصفة الحزم" الا أننا لم نسمع ردا من الجانب الإيراني يحمل اتهامات مماثلة لتركيا، وهذا في حد ذاته مؤشر على أن كلا البلدين ليس على استعداد لتعريض العلاقات الثنائية للخطر، حتى على خلفية قضية مثيرة للقلق مثل احتمالية اندلاع الحرب الأهلية في اليمن وعلى خلفية انطلاقة عملية "عاصفة الحزم" التي شنتها قوات تحالف خليجية عربية وإقليمية بقيادة المملكة العربية السعودية للإطاحة بانقلاب الحوثيين المدعومين من ايران،
وانتقد الرئيس التركي بشدة أنشطة إيران في اليمن وقال "إن إيران تبذل جهودا للهيمنة على المنطقة كيف يمكن التسامح مع ذلك؟"، ودعا إيران إلى "سحب كافة قواتها من اليمن وسوريا والعراق"، وتابع أردوغان "على إيران أن تغير عقليتها، الممارسات الإيرانية في المنطقة تجاوزت حدود الصبر فهي تزعجنا وتزعج المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج وإن هذه السلوكيات أثارت تململا لدى السعوديين وأكد أردوغان أن تركيا قد تفكر "في تقديم دعم لوجستي بهذا الصدد" مؤكدا على "ضرورة انسحاب الحوثيين الشيعة وتنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى من اليمن"، مشيراً إلى أن الأمر هو كذلك بالنسبة لإيران أيضاً، وانتقد تصعيد نشاط إيران في العراق، وقال "إن طهران تسعى إلى طرد تنظيم داعش الإرهابي من المنطقة لكي تحل هي في محله".
موقف أنقرة من نووي طهران!
ليست المفاجأة أن أنقرة لمحت للعالم مؤخراً ببرنامج نووي، لاسيما بعد أن أعلنت قبل 15 يوماً من الآن، بوضع حجر الأساس لإنشاء محطة نووية لإنتاج الكهرباء في بلدة أكويو بولاية مرسين جنوب تركيا، لكن المفاجأة التي فجرها مسؤول عسكري ألماني سابق أواخر العام الماضي عندما قال إن " هناك مؤشرات "قوية" على سعي تركيا إلى إنتاج قنبلة نووية سراً، في ظل انشغال العالم ببرنامج إيران النووي، وربما يفسر هذا عدم انخراط الأتراك وإبداء تخوفهم من نووي ايران.
حيث قال رئيس هيئة التخطيط في وزارة الدفاع الألمانية ما بين عامي 1982 و 1988 (هانز ريله)، في مقال له في صحيفة "دي فيلت" الألمانية واسعة الانتشار، إن الاستخبارات الألمانية تنصتت على المسؤولين الأتراك على مدى سنوات طويلة، ورأى في نتائج تحرياتها مؤشرات "قوية" على سعي تركيا لامتلاك القنبلة النووية، مشيرا إلى أن الاستخبارات الغربية الأخرى تشاطر ألمانيا هذا التخوف، وذكر (ريله) عددا من هذه المؤشرات ومنها أن تركيا وقعت عام 2011 اتفاقا مع شركة روس أتوم الروسية لبناء مفاعل نووي كبير على بعد 300 كيلومتر من المدينة الساحلية أنطاليا بقيمة 15 مليار دولار، وألحقته باتفاق آخر قيمته 17 مليار يورو مع شركة يابانية - فرنسية.، وأشار الكاتب إلى أن الاستخبارات الألمانية أفادت بأن رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان "أمر عام ٢٠١٠ ببناء منشآت لتخصيب اليورانيوم سراً".وأفادت التقارير الاستخباراتية بامتلاك تركيا لعدد كبير من أجهزة الطرد المركزية يعتقد أنها أتت من باكستان.
وقال المسؤول الألماني أن لدى الاستخبارات الألمانية معلومات عن مساعدة تركيا لباكستان في بناء برنامجها النووي منذ ثمانينات القرن الماضي، عبر توفير تركيا لبعض عناصر البرنامج التقنية التي كان محظورا على باكستان استيرادها. وتفيد المعلومات بأن هذا التعاون ما زال قائماً وأن " أبو البرنامج النووي الباكستاني عبدالقادر خان قد يكون زود تركيا بخطط بناء القنبلة النووية كما فعل مع كل من إيران وليبيا وكوريا الشمالية" وإذا ماصدق هذا المسؤول الألماني، فأن تعاطي الأتراك مع الملف النووي الإيراني وموقفهم، ربما لايكون ظاهرياً، وإنما أكثر باطنية من باطنية المذهب الشيعي الذي تعتنقه إيران!
توترات أشد!
الكاتب الصحفي (محمد زاهد غل) يقدم شيئاً أخر عن الرؤية التركية حول نووي إيران حيث يقول: "قد لا يكون من الممكن إعطاء رأي عن الرؤية التركية حول الاتفاق النووي الإيراني مع أمريكا والدول الغربية في معزل عن الظروف غير الطبيعية التي تجتاح المنطقة منذ أربع سنوات تقريباً، وبصورة أكثر تأثيراً بعد مفاجأة «عاصفة الحزم» التي قام خلالها تحالف عشر دول إسلامية بشن حرب على الحوثيين في اليمن، وهم المحسوبون جزءاً من المحور الإيراني الطائفي في المنطقة، فالرؤية لا يمكن حصرها في المستوى النووي الإيراني وأثره على العلاقات التركية الإيرانية، أو ما يمكن أن يهدد تركيا وجوديا من الطرف الإيراني، بقدر المخاوف التي يتم التعبير عنها في المنطقة من السلوك الطائفي، وما يمكن أن يصل إليه الحال فيما لو أصبحت إيران دولة نووية عسكريا، فإذا كانت إيران بقوتها العسكرية التقليدية تجاوزت حدودها الجغرافية عسكريا، وأرسلت جيشها وحرسها الثوري وميليشيات المتطوعين العسكريين والمرتزقة الشيعة إلى أربع دول عربية على أقل تقدير، فكيف إذا أصبحت إيران دولة تمتلك أسلحة نووية؟
وقال (غل): لولا وجود الزيارة المقررة سابقاً للرئيس التركي إلى طهران في 7/4/2015 وما تم فيها من تهدئة الانتقادات المتبادلة لكان حال التوتر الآن أكبر وأشد، ومع ذلك فإن الحكومة التركية وفي خضم هذه النزاعات المؤلمة نظرت إلى الاتفاق الإيراني مع الدول خمسة زائد واحد الذي وقّع في (لوزان) بتاريخ 2/4/2015 أنه لا يتعارض والسياسة التركية التي تدعو إلى أخذ إيران وكافة الدول في المنطقة بما فيها تركيا حقوقها في التخصيب النووي للأغراض المدنية والسلمية، فقد أصدرت وزارة الخارجية التركية بيـــاناً بتاريخ 3/4/2015 قالت فيه: "نحن سعداء أن نرى توافقاً على إطار عام لاتفاق نهائي" وأمل وزير الخارجية التركي: "أن تتوصل الأطراف إلى الاتفاق النهائي".
هذا الموقف التركي المرحب بالاتفاق هو موقف ينسجم مع العلاقات التركية والإيرانية وبالأخص ان تركيا كانت قد قامت بدور وسيط في الملف النووي الإيراني عام 2010، إضافة إلى أن تركيا ترى ان الاتفاق النووي الإيراني السلمي سينهي مرحلة الحصار والعقوبات على إيران، مما سوف يفتح مرحلة جديدة وواسعة من التعاون الاقتصادي بين البلدين، فتركيا كانت من أكثر الدول التي تساعد إيران في مرحلة الحصار والعقوبات الاقتصادية الدولية لتجاوز مشاكلها الداخلية، وتأمين لوازمها الاقتصادية الضرورية، وهذا وفر تبادلا تجاريا بين البلدين يقدر بنحو أربعة عشر (14) ملياراً، وفي حالة رفع العقوبات عن إيران يمكن أن تصل إلى ما يزيد عن ثلاثين (30) مليار دولار أمريكي، ولذلك أخذت الأبعاد الاقتصادية مكانة كبيرة في الزيارة الأخيرة للرئيس التركي أردوغان إلى طهران قبل أيام، فالتطلعات الاقتصادية التركية بعد توقيع الاتفاق النووي كبيرة جداً، وبالأخص أن التوجهات بين البلدين تذهب إلى استخدام عملاتهما المحلية، وهذا يرفع من قيمة الليرة التركية في التعامل الاقتصادي الدولي.
وهكذا فإن كل التوترات في العلاقات الإيرانية التركية وتزامنها مع توقيع إيران للإطار المبدئي للاتفاق النووي مع الغرب، فإن الموقف التركي لم يضعها في إطار العداء، ولا في إطار المخاوف التركية من توقيع الاتفاق حتى لو تم توقيعه في نهاية حزيران/يونيو المقبل بنصه المبدئي المعلن، لأن توقيع الاتفاق في صورته النهائية المتوقعة في نهاية شهر حزيران/يونيو أمر غير موثوق أولاً، لأن نقاط الاختلاف الأساسية متضمنة في بنود الاتفاق نفسه، فضلاً عن أن السياسة الأمريكية تلاعب إيران على طريقة القط والفأر، فطالما علق بين يديها، فإنها تفضل ملاعبته كثيراً حتى الإرهاق والاستسلام، ثم تلتهم منه لحمه وتلقي بجلده على قارعة الطريق.
خلاصة:
يفهم من الموقف التركي والنبرة الأردوغانية العنيفة من تمدد إيران، وكذلك التقارب غير المتوقع مع المملكة العربية السعودية (القوة السنية الثانية)، أن التمدد الشيعي في المنطقة أمرٌ مرفوض وسيجابه مهما كانت العلاقات الاقتصادية بين طهران وأنقرة متينة ومتطورة، فكما لتركيا مصلحة في التعاون الاقتصادي مع ايران لاستمرار نهضتها الاقتصادية وتنفيذ مشروعها "الغامض والسري" داخل تركيا أو خارجها، فلطهران مصلحة مقابلة أيضاً، وهي فك حصارها الاقتصادي عبر تركيا، وهذه بتلك، فلا يتعدى الأمر هنا المصلحة الاقتصادية، وهو لن يصل كي يقايض على تمدد النفوذ الشيعي داخل البلدان العربية "السنية في المحصلة". وهو أمر تفهمه طهران كونها هي الأخرى تتعاطى بذات الأسلوب مع أنقرة التي لم تعد ترغب إطلاقا وتحت أي ظرف ببشار الأسد الحليف الأقوى لها.
التعليقات (1)