ولم يكن الحال مع غالبية مثقفي اليسار المصري يختلف عن حال بعض مثقفي اليسار السوريين، فقد فوجئ الناس بموقف الشاعر أدونيس، الذي يفترض أنّه من معارضي النظام، إلا أنه لم يتورّع عن خذلان الشعب بحجة أن هذا الشعب يمثل اليمين المتطرّف، وأن الثوار الحقيقيين لا يخرجون من المساجد، بل يجب أن يكونوا من النخب اليسارية المثقفة!
غير أنّ المؤلم في الموضوع، أنّ بعض النخب اليسارية اختارت الوقوف على الضفة الأخرى ليس كرهاً بالأنظمة، بقدر ما هو حبّ للظهور وتغليبه على المبادئ، التي سرعان ما يتمّ القفز عليها، بمجرّد أن يلوّح لهم الطاغية بالقليل من المكتسبات، وتجدهم يبتلعون كلّ هذه المبادئ دفعة واحدة، فيما يناضل المغمورون بحثهم عن الضوء بعيداً عن أقبية الظلم..
لقد أدرك الطغاة نهم هذا النمط من الشخصيات للهيمنة على مجتمعاتهم، خاصة وأنهم في الأغلب يختلفون عن أهلها من ناحية التركيبة الفكرية، فمنحوهم مساحة "التسلّط" على هذه الشعوب، التي لطالما حلموا بها، مقابل تمرير قضايا تخدم الطاغية وتفيده في الإمعان في إذلال هؤلاء الناس، الذين يفترض أنهم رعاياه!
ومن هذا المنطلق، كان من المحبط حقاً ان تتحول الكاتبة والمفكرة نوال السعداوي إلى مهرّج في سيرك السيسي، وتنسف كلّ تاريخها في النضال من اجل حقوق المراة، ذلك التاريخ النضالي الذي وصل إلى حدّ الحكم بطلاقها من زوجها، لتتحول من رمز من رموز الحراك النسوي في العالم العربي، إلى ألعوبة بيد نظام ، جلّ ما قدّمه للمرأة هو استغلالها في كلّ القضايا..
ما كنت لأحزن لو كان العنوان العريض للحراك النسوي الذي تسعى نوال السعداوي لأن تقوده، هو التصدي لظاهرتي التحرّش الجنسي أو الختان، على سبيل المثال، فأي مثقف، مهما بلغت درجه كرهه للنظام الحاكم، سيجد نفسه منخرطاً مع هذا النظام في حراك من هذا النوع، نظراً لأنّه يسعى لإصلاح المجتمع والنهوض به..
نوال السعداوي، التي فصلت من عملها كطبيبة في القصر العيني في عهد "أنور السادات"، وحوكمت مع ابنتها الكاتبة د. منى حلمي بتهمة الكفر والرّدة، والتي واجهت دعوى لتفريقها عن زوجها د.شريف حتاتة، ومن ثمّ وصلت الأمور إلى درجة رفع دعوى لإسقاط الجنسية المصرية عنها، عام 2008، في عهد "محمد حسني مبارك"، تختصر كلّ تاريخها السياسي والنضالي في مجال حقوق المرأة، في تظاهرة سخيفة، لمجرّد أن الطاغية، الذي يسعى لتجميل نفسه من خلالها، لم يسمح لها بهامش أكبر من الحريّة، لا اكثر! وهو تماماً ما دفع بجامعات بريطانية إلى رفض استقبالها كمحاضرة، بدعوى أنها تدعم المشير السيسي، والذي اعتبرته هذه الجامعات ديكتاتوراً، وأنه يرتكب انتهاكات في مجال حقوق الإنسان، فهل ترى الدكتورة "سعداوي" أن حقوق المرأة شيء، وحقوق الإنسان شيء آخر؟
من المثير للعجب، أيضاً، هو أن سيدة تنبري للدفاع عن حرية الرأي، تصادر من المرأة حقها في اختيار لباسها، مهاجمة الحجاب بأنه ضدّ الأخلاق، حيث قالت في تصريح لها، منذ فترة وجيزة: "“لماذا أنا ضد الحجاب؟ لأنه ضد الأخلاق لأني لو أنا أردت أن أظهر بمظهر الشريفة، أشتري حجاباً بخمسين قرشا أو بخمسين جنيها،ً وأشتري الجنة بهذا المبلغ، وأنا أريد أن أدخل الجنة بأخلاقي وسلوكي، وليس بقماش على رأسي”.
هذا التصريح الذي سرعان ما تلقفه الصحفي المصري "شريف شوباشي" ودعا إلى ملونية لخلع الحجاب، تنطلق من ميدان التحرير، وسرعان ما تراجع عن تصريحاته ووعد بمقاضاة الصحيفة التي نقلت تصريحه، وأنه يستحيل تواجد مليون امرأة يقمن بخلع الحجاب في الآن ذاته، ولكن هذا التصريح ليس بمستهجن في ظل جهاز الإعلام "السيساوي" الذي وصل إلى درجة كبيرة من الإسفاف فيما يتناوله من قضايا، لصرف الناس عن القضية الأهم، والتي تمّت مصادرتها منهم ، ألا وهي حرية الرأي، ولكنه محبط للغاية القصوى حين يتعلّق بطبيبة ومفكرّة لطالما تحدّثت عن القهر الخماسي الذي تخضع له المراة على كافة الأصعدة: الاقتصادية، الاجتماعية، الدينية، الأخلاقية والجنسية، والتي لطالما انبرت للوقوف في وجه ظاهرة ختان الإناث على مدى ستين عاماً، ولكن يبدو أن السعداوي قد أوضحت بنفسها سبب نقمتها على نظام مبارك، من خلال قولها: "لقد حاربت ضد ختان الذكور والإناث منذ ستين عاماً، وفقدت وظيفتى، وسمعتي وحاربني رجال الدين ونقابة الأطباء من أجل هذه القضية، )ولما عملوا قانون ماحدش جاب سيرتى) ونسب الفضل لسوزان مبارك لأنها زوجة الرئيس"!
ولهذا فليس مستغرباً على الإطلاق أن يستضيف "باجي قائد السبسي" رئيس تونس الحالي- والذي اعتبر انتكاسة بحق الربيع العربي، وعودة لنظام ابن علي من النافذة- نوال السعداوي وأدونيس في آن معاً، وهما "اليساريان" اللذان اختارا أن يكونا معارضين حباً في الظهور ليس إلا، وما ان تمّ التلويح لهما ببعض المكتسبات، التي يفترض أنهما أكبر منها، حتى انقلبا إلى مؤيدين لأنظمة ديكتاتورية، تستبيح الإنسان وحقوقه، لمجرّد أنهم وجدوا أن الحراك الشعبي يتخذ طابعاً إسلامياً، وكأن هذه النتيجة ليست متوقعة في منطقة تعدّ مهد الديانة الإسلامية، وفي ظلّ أنظمة سعت جاهدة لكبت الحريات الدينية!
لست هنا بصدد مناقشة فكرة مليونية خلع الحجاب، لأنها لا تستحق الوقوف عندها أصلاً، ولا بصدد محاكمة الموضوع من وجهة نظر شرعية، ولكن من المؤسف حقاً أن يترك من ينصبون أنفسهم على أنهم دعاة النهضة في مصر، أكثر من ربع الشعب المصري تحت خط الفقر، وأن تتصدى مفكرة باسمها الكبير لموضوع لا يمكن في حال من الأحوال اعتباره الملف الأهم لدى المصريات، في ظل تفاقم ظاهرة التحرّش الجنسي، والتي تعتبر القضية الأكثر إجحافاً بحق المرأة، وفي ظلّ ما تعانيه المرأة المصرية من مشاكل اجتماعية، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية.
التعليقات (37)