النتائج الاستراتيجية للاتفاق النووي الإيراني!

النتائج الاستراتيجية للاتفاق النووي الإيراني!
نجم عن عملية المفاوضات النووية مع إيران عدد من الوقائع، وساهم ذلك في بروز مجموعة مشكلات، لن تذللها معالجة مسائل مثل آلية تقليص مخزون إيران من اليورانيوم المخصب من 10 آلاف كلغ إلى 300 كلغ، ومستوى تخصيب اليورانيوم بعد عشر سنوات، وقلق وكالة الطاقة الذرية الدولية إزاء مساعي إيران العسكرية (النووية). والقدرة على حل هذه المسائل ينبغي أن تحدد ما إذا كانت الولايات المتحدة ستبتعد عن المفاوضات وموعد هذا الابتعاد.

اتفاق الإطار والردع الطويل الأمد!

ثمة مشكلات وثيقة الصلة بسيرورة التفاوض. فالاتفاق المرحلي صدع بالتخصيب الإيراني، والاتفاق الجديد يدرج هذا الإقرار (بتخصيب إيران اليورانيوم) في بنيته. وقد ترى أميركا في تقييد قدرات إيران النووية طوال عقد، فرصة استراحة سانحة. ولكن جيران إيران يرون أنها مرحلة خطيرة تفضي إلى خطر مستدام. ويرجح أن يعتبر بعض أبرز اللاعبين في الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة تصدع بقدرات عسكرية لبلد هو مصدر أكبر خطر يهدد بلادهم. وكثر سيتمسكون بالحق في قدرات متكافئة. ومفعول ما يترتب على المفاوضات لا عودة عنه.

وإذا «انتشر» السلاح النووي في الشرق الأوسط وصار موئل مجموعة واسعة من دول بلغت العتبة النووية - وبعضها يجمعها تنافس مميت وبائد-، فإلى أي مفهوم ردع نووي أو استقرار استراتيجي سيحتكم الأمن الدولي ويستند؟ نظريات الردع التقليدية تفترض سلسلة معادلات ثنائية. ولكن هل ثمة رؤية أو تصور لسلسلة تنافس متشابكة يوازن فيها كل مشروع نووي جديد نظيره من المشاريع في المنطقة؟ وافترض التفكير السابق في الاستراتيجيا النووية وجود دول مستقرة. وثمة عوامل، منها: المسافة الجغرافية والبرامج النووية الواسعة الحجم والنفور الأخلاقي إزاء شن هجوم مفاجئ، جعلت الهجوم عصي التصور والاحتمال في أوساط القوى النووية الأصلية. ولكن كيف تترجم هذه العقائد في منطقة درجت دولها على رعاية «وكلاء» لها أو جماعات وكيلة ليست دولة، وحين تُهاجم بنى الدولة ...؟

وبعضهم أشار إلى أن الولايات المتحدة قادرة على ثني الدول المجاورة لإيران عن تطوير قدرات ردع من طريق توسيع المظلة النووية ومدها إليها. ولكن ما نوع الضمانات الأميركية وكيف تحدد؟ وإلى أي عوامل تستند في إرسائها أو تفعيلها؟ وهل الضمانات تشمل جبه استخدام أسلحة نووية أم جبه أي هجوم عسكري، سواء كان نووياً أو تقليدياً؟ وهل نعارض هيمنة إيران أم نعارض وسيلة بلوغ هذه الهيمنة؟ وماذا لو نُشرت أسلحة نووية على وجه الابتزاز النفساني؟ وكيف يوفق بين مثل هذه الضمانات والرأي العام والإجراءات الدستورية؟

التعاون ليس إعلان مشاعر حسنة!

ومن حسنات إبرام اتفاق، احتمال طي أو تقييد معاداة إيران الغرب والمؤسسات الدولية في الأعوام الـ35 الماضية، وفرصة استمالة طهران إلى مساعي إرساء الاستقرار في المنطقة. وكل منا خدم في إدارة أميركية خلال مرحلة انضواء إيراني استراتيجي تحت لواء اميركا واختبر فوائده في تحقيق مصالح البلدين والشرق الأوسط. لذا، نرحب بمثل هذا المآل. فإيران دولة قومية وازنة وجذور ثقافتها التاريخية ضاربة، وحس الهوية القومية فيها قوي، وشعبها يافع، إلى حد ما، ومتعلم. ولا يستخف باحتمال انبعاث مثل هذا الشريك.

ولكن ما الغاية من الشراكة مع إيران؟ فالتعاون ليس إعلان مشاعر حسنة، وهو يفترض تقاطع تعريف الاستقرار. وتغيب المؤشرات إلى مثل هذا التفاهم. وحين تمت محاربة أعداء مشتركين مثل «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، رفضت طهران التزام أهداف مشتركة. وممثلوها يرفعون لواء مفهوم ثوري معادٍ للنظام الغربي. ويصف بعض المسؤولين الإيرانيين المفاوضات النووية بأنها ضرب من الجهاد. والمرحلة الأخيرة من المفاوضات النووية تزامنت مع سعي إيران إلى توسيع نفوذها في دول الجوار. واليوم، صارت طهران أو قوى شبكتها الزبائنية العاملَ العسكري أو السياسي الغالب في أكثر من دولة عربية، وتتجاوز هذه القوى سلطات الحكومات الوطنية. وإثر ضم اليمن أخيراً إلى ساحات القتال، حازت إيران مواقع قدم في كل الممرات المائية الاستراتيجية في الشرق الأوسط وطوقت السعودية. وإذا لم يُجمع بين تقييد سياسي وإمساك نووي، قد يعزز اتفاق يرفع العقوبات عن إيران مساعي هيمنتها.

تعاون نووًي مؤقت مقابل قبول الهيمنة الإيرانية!

بعضهم يقول هذه المشاغل ثانوية، في وقت إن اتفاقاً نووياً هو السبيل إلى تغيير في الداخل الإيراني. ولكن من أين لنا الثقة في أن قدرتنا اليوم على التنبؤ بمآل الشؤون الإيرانية الداخلية في محلها وأنها اليوم أكثر نباهة مما كانت عليه حين توقعت مآل الأمور في فيتنام وأفغانستان والعراق وسورية ومصر وليبيا؟

وفي غياب الربط بين الإمساك النووي والإمساك السياسي، سيخلص الحلفاء التقليديون لأميركا في المنطقة إلى أن واشنطن قايضت تعاوناً نووياً موقتاً مقابل قبول الهيمنة الإيرانية. ولا محالة من أن يسعى هؤلاء الحلفاء إلى إرساء صيغ موازنتهم النووية الخاصة، والاستعانة بقوى أخرى عند الحاجة إلى حفظ وحدتهم وتماسكهم. ولكن هل تأمل أميركا في وقف نازع المنطقة إلى الانزلاق إلى اضطرابات طائفية وانهيار الدول واختلال توازن القوى حين تُرجِّح كفة طهران، أم أنها ترى أن هذه الحال هي مظهر من مظاهر التوازن الإقليمي العضال؟

وبعضهم يشير إلى أن الاتفاق هو الجسر إلى فك أميركا ارتباطها بنزاعات الشرق الأوسط- وذروة هذا الانفصال هو الانسحاب العسكري من المنطقة الذي باشرته الإدارة الحالية. ولكن الدول السنية تعد العدة لمقاومة إمبراطورية شيعية جديدة.

الخلاصة!

يرجح ألا يكون هذا الحسبان (الاتفاق جسر إلى ...) في محله وأن يحدث خلافه.

فالشرق الأوسط لن يرسي استقراره من تلقاء نفسه، ولن يولد توازن قوى «طبيعي» في التنافس الإيراني – السني. (وتشير نظريات الموازنة التقليدية للقوى إلى الحاجة إلى دعم الطرف الأضعف، وليس دعم القوة «الناهضة» أو المتوسعة). والمسألة لا تقتصر على استقرار الشرق الأوسط. فمصلحة أميركا الاستراتيجية تقتضي الحؤول دون اندلاع حرب نووية ونتائجها الكارثية. فالأهواء في المنطقة إذا اقترنت بأسلحة دمار شامل، قد تجر أميركا إلى التورط أكثر في المنطقة. وتجنيب العالم أسوأ الاضطرابات يقتضي أن تطور الولايات المتحدة عقيدة استراتيجية في الشرق الأوسط. فالاستقرار يستدعي أداء واشنطن دوراً نشطاً. وارتقاء إيران إلى عضو وازن في المجتمع الدولي يقتضي أن تقبل بتقييد قدرتها على زعزعة الشرق الأوسط ووقف تحدي النظام الدولي. وإلى أن يتبدد غموض مفهوم أميركا السياسي الاستراتيجي، سيفاقم الاتفاق النووي المرتقب تحديات العالم في المنطقة، ولن يساهم في حلها. وعوض تعزيز قدرة أميركا على الانسحاب من الشرق الأوسط، يرجح أن يعمق الإطار النووي الحاجة إلى تدخلها ويُعظِّم ضرورته. والتاريخ لن ينجز عملنا عنا، بل هو يساعد من يسعون إلى مساعدة أنفسهم.

* هنري كيسنجر:

وزير الخارجية الأميركية بين 1973-1977،

** جورج شولتز:

وزير الخارجية الأميركية بين 1982-1989، ووزير الخزانة الأميركية بين 1973-1974

*** المصدر:

صحيفة (الحياة) 15/4/2015 - إعداد: منال نحاس

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات