ليتها ظلّت منسية!

ليتها ظلّت منسية!
ما إن جرى الإعلان عن بدء تحرك عسكري من قبل قوى المعارضة لتحرير مدينة إدلب، حتى انطلقت حملات إعلامية حول ما سيكون من أمر المدينة، وكيف أنها النموذج الوحيد للتعايش السلمي في محيطها "الإسلامي الدموي"، وكأن النظام هو من يحمي االمواطنين بالفعل في مدينة إدلب!

غير أن هؤلاء تناسوا أن هذه المدينة لقبت بالمنسية لأنها همّشت على مدى عقود طويلة من حكم الأب والابن، وكانت عبارة عن محطة تدريبية يخضع لها كل رموز الفساد، والذين كان يجري تدريبهم عن طريق منحهم مناصب في إدلب، إعداداً لهم كي يكونوا من كبار الفاسدين في سوريا.

هذه المدينة المنسية، والتي كانت أول زيارة لرئيس إليها منذ عام 1970، ومنذ أن استقبلت حافظ الأسد بحذاء تلقفه عبد الله الأحمر- والذي كان محافظاً لإدلب آنذاك، بين يديه، ويبدو أن هذا الحذاء هو الذي أبرز ولاء "الأحمر" اللامتناهي، ليصبح بعدها عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث، إلى الأبد- في عام 2010، ولم تدم هذه الزيارة أكثر من بضع ساعات لأداء صلاة العيد في مسجد الروضة الذي يقع في المربع الأمني، وبحراسة مشددة لا تخلو من بعض مظاهر التشبيح، كدعوة إسمية للمصلين في المسجد، وضرب من يشتبه "بضلوعه بأعمال تخريبية"، خوفاً من تكرار مشهد عام 1970.

ما لبث المشهد أن تحول بعد استرجاع الجيش للمدينة من قبضة المعارضة المسلحة بكافة فصائلها، إلى محبة لأهاليها، ورهان على صمودهم وولائهم، وإمعاناً في عزلهم عن محيطهم الجغرافي والتاريخي، حيث راح النظام يخلق نوعاً من الشرخ بينهم وبين إخوانهم في الريف، غير أن شهر العسل الخلّبي هذا لم يدم اكثر من ثلاثة أعوام ليظهر النظام الكمّ الهائل من الحقد الذي يحمله تجاه المدينة؛ بمجرّد تأكده من أنه لم تعد له أي سلطة على المدينة، حتى راح يقصفها بشتى أنواع الأسلحة المحظورة دولياً وغير المحظورة، ولم يدّخر جهداً في قصفها بالغازات السامة.

ومع ذلك، فإن ردة الفعل هذه ليست بمستغربة من قبل النظام، غير أن ردة الفعل الصادمة تجسّدت في مواقف بعض الأصوات اليسارية، التي يفترض أنّ ثقافة أصحابها، تستند على مفاهيم ليبرالية، تتيح للمواطن اختيار نهج الحياة الذي يراه مناسباً، خاصة وإن كان لا يحمل أي نوع من الغلوّ. فقبل أن ينلج الصباح، راحت تتعالى الصيحات التي تستنكر مفردة "تحرير"، وتعتبر أن ما ينتظر إدلب هو مصير الرقة، مستندين بدعواهم إلى أن أعلام "القاعدة" هي من تصدّرت المشهد..

لا نستطيع أن ننكر أن المخاوف ذاتها ساورت الكثير من المثقفين والناشطين في المحافظة ككل، ولكن سرعان ما تلاشت هذه المخاوف برفع علم الثورة من قبل ناشطين إعلاميين من أبناء إدلب وسواهم، خاصة إذا عرفنا أن "عبد الله حكواتي"، الناشط الإعلامي المعروف هو من حملة الفكر اليساري، والذي لا يتناسب مع فكر القاعدة وأشباهها في حال من الأحوال، وأن الإعلامي "أحمد بريمو"، كان معتقلاً لدى "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وهما من أوائل من رفعوا علم الثورة في ساحة الساعة، التي تحمل دلالة خاصة لدى الأوساط الثورية في المحافظة ككل، وأن السيطرة لو كانت "للمتطرّفين"، وفق ما يتم الترويج له، لما تمكنا من دخول إدلب أصلاً!

ولكن النظام وفّر علينا فكرة التكهن بما سيكون من مصير مدينة إدلب، حيث راحت براميل الموت تنهال عليها من كل حدب وصوب، وتحولت إلى "قِبلة" لطيران النظام، الذي لا يغادر سماءها، انطلاقاً من كل المطارات، ولم يوفر صواريخ "سكود"، وصواريخ "الفيل"، التي لا يفرّط فيها "إلا للغوالي"!، حيث أنه من المعروف أن أي منطقة تكون تحت سيطرة "القاعدة"، هي في منأى عن قصف النظام وطيرانه، هذه القاعدة التي بات أبناء المنطقة الشمالية في سوريا يدركونها جيداً.

كل هذا، كان أكثر من كاف لتوضيح الوجه المدني للحراك في إدلب- على فرض أننا تجاهلنا تصريحات القادة العسكريين لمختلف الفصائل، ممن تحدثوا عن إدارة مدنية لإدلب، وإخراج المقرات العسكرية خارجها، واعتبار علم الثورة هو العلم الرسمي وما عدا ذلك يرفع فوق المقرات- وبدأ اللعب بورقة الأخوة المسيحيين، ووجوب حمايتهم، متناسين أنهم لم يتعرضوا لأذى في ظل تجهيل النظام على مدى عقود، فهل يعقل أن تنقلب الأمور بعد أن أنارت الثورة عقولهم! وأشيعت الأنباء حول اختطاف الأب ابراهيم فرح، راعي الكنيسة الأرثوذوكسية في إدلب، رجل الدين المسيحي الوحيد المقيم في المدينة، وهو من يناديه أبناء المدينة على اختلاف مللهم، وثقافاتهم، ومنابتهم البيئية بـ"أبونا".

ويبقى الوجه الأجمل لهذا الحراك، متجسّداً في مجموعة الحملات المدنية التي قام بها أبناء المدينة والأرياف القريبة، من إجلاء للسكان حفاظاً على أرواحهم، فرق الدفاع المدني التي تعمل على إسعاف المصابين والجرحى، تأمين المأوى للنازحين، شبان مهمتهم الدخول إلى المدينة والتواصل مع المغتربين لطمأنتهم عن ذويهم في ظل انقطاع الاتصالات وتعطل الخدمات، فيما انصرف المغتربون للترويج لحملات إعلامية ترمي إلى حماية مدينتهم، وطمأنة الأهالي عن أحوال ذويهم في المشافي التركية، ومحاولات لم شمل الأسر التي فقد الاتصال بين أفرادها.

شابات إدلب ونساؤها لم يكنّ خارج الدائرة، فهن يعملن على القضايا الإعلامية والأنشطة الإنسانية، التي من شأنها إبراز الجانب المدني للحراك في مدينة إدلب.

الكل بكى مصير إدلب التي ستتحول إلى "رقة ثانية"، غير أن أبناءها ما زالوا فاتحين أكفهم في انتظار دمعة واحدة من تلك العيون التي فاضت بالدمع حزناً على مصيرها- لدى سماع خبار تحريرها- تتساقط حزناً على الأرواح التي تهرق في المحافظة بأسرها، بفعل البراميل، والسكود، والفيل..

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات