دخل الثوار إدلب حاملين أرواحهم على أكفهم، من قذيفة أو قناص أو طائرة في السماء تتربص بهم، فتسبقهم إلى صفحات الإعلام والتواصل والمقاهي ومن خلف النراجيل والمكيفات أصوات تطعن بالتحرير، ولو كان هذا من شبيحة الأسد لكان أقل من طبيعي، فهي مهنتهم منذ بداية الثورة، لكن المؤلم في الأمر أن هذه الأصوات ألبست بعض المعارضين مهنة جديدة بطريقة أو بأخرى حيث أصبح لا عمل لهم سوى مراقبة الأخطاء وكأننا في برنامج أخطاء وعثرات، بعضهم انتمى لتيارات وأحزاب وبعضهم يغني منفرداً على أوتار حباله الصوتية بصفته نجماً فيسبوكياً.
ومع دخول الثوار وإعلانهم تحرير إدلب اصطف أولئك جميعاً كجوقة لا يشبهها سوى الطابور الخامس الذي لطالما حذرنا منه، هذا إن لم تكن تلك الجوقة إحدى مكوناته، فبدا لهم أن الثوار مجموعة مرتزقة جاهلين متطرفين أوغاد لصوص، وما إلى ذلك من أوصاف، فقد سرقوا جمال الثورة الرومانسية بكلمة الله أكبر، ولوثوا متعتهم اليومية ببقاء الأسد متربعاً على ساحاتها وأنفاسها يعربد عبر شبيحته ومرتزقته بكل صفاقة على الحجر والبشر.
واكتمل المشهد الدرامي معهم حين هُدم تمثال المجاهد ابراهيم هنانو، فأعطاهم ذلك الفعل جرعة جديدة ليتحفونا بثقافة مريضة غير مسؤولة تبث السموم في كل اتجاه.
وعلى هذا بدت الثورة كقطعة حلي جميلة سرقتها منهم تنظيمات التطرف وراياته، والسؤال هنا من أين سرقتها تلك التنظيمات وفي أي جيب من جيوبهم قد خبأوا الثورة فسطا عليها الآخرون وسرقوها، بعضهم يتحفنا من باريس أو من برلين وأوسلو وغيرها من عواصم اللجوء، وبعضهم من خلف مكاتبهم الفخمة في الخليج، وبعضهم من مقاهي تركيا أو من دواوين منظماتهم المستحدثة، وهكذا من شتات الأرض يرسلون بروتوكولاتهم الثورية العجائبية.
لم يدرك هؤلاء الذين يقابلون همجية الأسد وإيران وروسيا برومانسية المشاعر أن ابراهيم هنانو كان ثائراً يفترش الأرض ويحمل قيمة ثورته على فوهة النار، ولو كان حياً يرزق لدخل مع الثوار وهدم كل ما أنجزه نظام البعث من ملامح تشبهه ولا تشبه التراث السوري، تتقابل مشاعر هؤلاء المعارضين مع مشاعر مؤيدي الأسد الذي أطلوا علينا كراعين للقيم والأخلاق ونافضي الغبار عن تراث هذه الأمة.
هكذا من يراجع صفحات هؤلاء ومنذ معركة الساحل على الأقل حين اتهموها بالطائفية أشعلوا الشكوك بالثورة والثوار، وبعضهم كانوا سباقين في التشكيك بالثورة منذ أن حُمل السلاح للدفاع أن أطفالهم وذويهم، نظروا في إدلب إلى الرايات وتناسوا الأرض الحرة تحت أقدام الرجال، ساءتهم كلمة جهاد ونسوا أن ابراهيم هنانو هو بالأساس مجاهد، لكنهم بالوقت ذاته ينظرون لجهاد أبطال باب الحارة ولا يضيعون فرصة لفتل الشوارب على أبواب بلاد هدمها الأسد والبعث منذ أن دخلها محتلاً ومختلاً وشوه حتى النظرة الجمالية للعمران فيها.
ولعل ما قاله النبي محمد "ص": "أن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من قتل امرئ بغير حق"، يعني بوضوح أن كل خراب يستطيع الإنسان بناءه، لكن الروح عندما تزهق لا يعوضها شيء، ليكون السؤال أي شيء يمكن أن يفوق حزننا على سوريا الذبيحة التي أرادها القتلة نهر دم يتراقصون في لطمياتهم ويهتفون له؟
ابراهيم هنانو الكردي الذي لم يبع سوريته أظنه في قبره وكل قادة التحرير من رجال سوريا الذين قدموا لنا بلداً، يتقلّبون في قبورهم ألماً آخر، حيث انتهى بنا الأمر إلى عائلة أسدية تذهب بسوريا إلى هذا الدرك.
في الثورة السورية كما في كل الثورات آلاف الأخطاء، وفيها أيضاً مئات آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين، فيها مدن لم تعد على قائمة العناوين، وأسر خرجت من سجلات النفوس، فيها ملايين لم تعد تدري متى ستعود حتى لو كان عودها إلى ركام وأطلال، وفيها أولئك الذين ينامون بين الصخور والوديان يلتحفون السماء ويفترشون الأرض، يتقاسمون قطرة الماء وطلقة الرصاص، يتبادلون الابتسامات ليشيعوا الأمل في قلوب بعضهم، هم ليسوا ملائكة لكنهم ثوار، هم ليسوا أنبياء لكنهم شجعان، هم ليسوا قديسين لكنهم صنعوا أرضاً مقدسة، هي ثورة بحلوها ومرها ستبقى من أنصع ثورات التاريخ المعاصر بل والغابر، وإدلب التي رسمت من كفرنبل لوحات خلود لهذه الثورة وعناوين المستقبل المضيء، هي ذاتها التي قدمت أيقونات بنش وحاس الصمود، هي إدلب التي تحررت من حنك الوحش، لتفتتح الطريق إلى وجه القمر، وجه سوريا القادم عندما يعيد للتاريخ هيبته، حيث في كل بيت قائد سيرفع له اسم وتمثال وخلود.
التعليقات (7)