إذا عدنا للقرن الماضي وتابعنا بعضاً من مراحل التاريخ، قد يكون أوضح مثالا نورده ما رافق صعود شعبية جمال عبد الناصر العاطفية والتي استندت إلى خطابات تعبوية دون التدقيق بمسار الأحداث، كان العالم العربي حينها غضاً في بداية تشكيل الدولة القطرية، ولعل ذلك الجنين الخارج إلى النور رافقته عملية تأسيس لدساتير ورقية هي الأخرى لم تكن مرنة وعملية بحيث تفسح المجال لنمو سليم للشعوب، على الأقل هذا ما تعطيه لنا النتائج، حاول القذافي تقليد عبد الناصر واعتبر نفسه الوريث لشعبيته، كذلك فعل قادة الانقلابات في سوريا والعراق واليمن والجزائر،وهكذا ابتليت الشعوب ببائعي شعارات تعلو على كل القوانين التي هي ما كانت تحتاجها الدول.
إن ماحدث باليمن مؤخراً من استيلاء الحوثيين على مفاصل الحكم، يعيد للذاكرة الانقلابات العسكرية في القرن الماضي والتدخل القومي الناصري في مسار الأحداث والتعبئة الشعبية لذلك، وبغياب العاطفة القومية يتقدم ملالي إيران ليأخذ الدور ويعلن العواصم العربية واحدة تلو الأخرى كمحطات انتصار لثورة الخميني مرتكزاً على العاطفة الطائفية.
من الواضح أن كل الحركات التي قامت في القرن الماضي على مستوى الجغرافيا العربية انتهت إلى هزائم كبرى على كافة الأصعدة، ولكن إشكالية الجمهور أنه مازال ينحاز لعاطفة انفعالية تأخذه كيفما شاء محركها، نعم رفعت صور بشار الأسد في صنعاء بعد دخول الحوثيين قصر الرئاسة ولكن ليس محبة عروبية به إنما تحد لشعور السنة، وبالذات السنة العرب معتقدين أنهم يناصرون بغالبيتهم السوريين ضد بشار الذي تدعمه إيران، فكيف تسير عاطفة السنة بشكل عملي ضمن هذه الأحداث؟
في مصر الدولة العربية الأكبر على سبيل المثال والتي أثرت بعالمنا العاطفي من خلال عبد الناصر تاريخياً، تفاعل شعبها مع ثورة السوريين وفتح الجمعيات التي تساعد اللاجئين ولم ينقل عن أي سوري أنه تعرض لسوء، وبين ليلة وضحاها تغير الخطاب السياسي للقادة هناك، فانقلب الشعب بأغلبه على السوريين وبدأنا نقرأ الشتائم والإهانات وما إلى ذلك من أوصاف لم تكن بالحسبان، ترافق هذا مع قوانين صارمة، ومع رسائل ود لبشار الأسد وما يفعله بشعبه بل بالسنة! وابتدأنا بالمقابل نقرأ ونسمع ردود الأفعال السورية على تبدل هذا الخطاب الشعبي والسياسي المصري وأيضاً من السنة، لتنتهي بزيارة بوتين واستقباله بحفاوة دون اكتراث للدم العربي المسفوك بصواريخه بسوريا ودعمه لإيران فيما تقوم به بعالمنا العربي.
وإذا ما ابتعدنا عن التوصيف ووضعنا مسميات بعينها، فقد قصف نظام الأسد عدداً كبيراً من مساجد سوريا وتم التهكم على كتب القرآن الكريم في أكثر من جامع وحرقها، وكان من الملفت أنه لم تخرج في عالمنا العربي والإسلامي مظاهرة واحدة تحتج على ذلك، بالمقابل كانت المظاهرات الغاضبة تقابل ما نشر من رسومات مسيئة للرسول "ص"، أيضاً استطاعت داعش المغالاة بتشويه قيم الإسلام ، ولم تخرج مظاهرة واحدة تندد بذلك، بل بضعة خطابات متفرقة لتبرئة الإسلام من هكذا أفعال وكأن الإسلام هو المتهم وليس أولئك الإرهابيين، ليأتي السؤال هنا: من يدير عاطفة الشعوب بلا اكتراث بمصيرها؟
الآن ومنذ إعدام الطيار الكساسبة بتلك الطريقة البشعة، مازالت ردود الأفعال الشعبية تذهب باتجاهات متناقضة، فهناك من يشتم داعش على ما اقترفت وهناك من يشتم الأردن على إرساله الطيران ضمن التحالف الدولي، وفي الأردن أيضاً من يشتم السوريين كونهم سبب البلاء، وأن القضاء على داعش هو النصر بعينه دون أن نقرأ أن مساعدة السوريين في محنتهم ضد قاتلهم هو بالنتيجة نصر للأردن وحماية له باعتبار أن الشعبين تجمعهما العروبة والدين ومصابهما واحد، لا شك قدم الأردن الكثير من المساعدة الإنسانية وبالتأكيد كان التضامن الشعبي خلال السنوات الماضية يعبر عن قيم أصيلة، وكذلك فعل الخليج العربي والمملكة العربية السعودية بتقديم المساعدات، ولكن العاطفة العربية الجمعية ومنذ بداية مأساة السوريين إن كان سببها جرائم الأسد أو جرائم داعش وسواها، ترى هل تتبع لإحساس بالمسؤولية العربية تجاه الشقيق أم أنها تواكب الإعلام المحلي.
إن متابعة صفحات التواصل الإجتماعي وبالأخص للسوريين يعطي ذات الدلالة، فهناك من لا عمل له سوى شتيمة العرب، وهناك من مازال يناشد إخوانه العرب، أما مثقفو عالمنا العربي فقد انتقل أغلبهم إلى التحليل والتنظير السياسي دون الإدراك أن عليهم واجب تدعيم الخطاب الايجابي وإبراز النواحي الجميلة والأصيلة في المجتمعات العربية.
المخيف في الأمر أن الخطاب الذي أصبح سائداً يبث روح الهزيمة على المستوى الشعبي، بل ويصر على أن المجتمعات العربية لم تعرف يوماً النخوة والمروءة، ولم تقدم للحضارة شيئاً سوى التعصب، لأن هذا الكلام مبني على نظرة قاصرة لا تبرز فكرة أن الشعوب لم تأخذ فرصتها حتى الآن كما يجب، والخشية أن يصبح الخطاب العربي خطاباً يفرّق ولا يجمع إن بقي بهذا الاتجاه؛ خاصة مع تزايد أزمات مجتمعاتنا والتدخل الفج للفرس!
ليس المقصود هنا العودة إلى الخطاب القومي الذي كان سائداً بل التنبه لإعادة صياغة وضبط خطاب يعيد للإنسان العربي الثقة بماضيه وتراثه وسلوكه، وقدرته على البناء الحضاري، وهذا بحد ذاته أمانة أخلاقية يجب أن نتركها للأجيال القادمة، من خلال النظر إلى الأمة على أنها تنتصر وبالأخص بسوريا، بينما أعداؤها هم الذين يعيدون حساباتهم بهذا المخاض الذي نعيشه ويبدو للبعض على أنه عسير.
التعليقات (0)