وها هو النظام يواجه الهجمات الصاروخية لجيش الاسلام على مقاره الأمنية في دمشق والتي تعتبر شكلاً من أشكال حروب الاستنزاف.
الهدف الأساسي لأي حرب استنزاف هو الضغط المادي والمعنوي والبشري على الطرف المعادي واجباره على وضع كافة مقدراته في حالة جاهزية ثم استهلاكها واضعافه تدريجياً حتى يصل لمرحلة الانهيار والتنازل والاستسلام أو الهرب.
في الحالة السورية وبغض النظر عن الخسائر البشرية والمادية، تضع خسارة النطاق أو الحيز الآمن الذي كان يمثله قلب دمشق ومناطق الشبيحة مثل المزة86 وغيرها عناصر النظام في حالة توتر مستمرة حتى بعيداً عن الجبهات وسوف يكون لها أثر كبير إذا استمرت على المدى البعيد، فكل قوة عسكرية بحاجة لنطاق أو منطقة تعتبر آمنة بالنسبة لعناصرها وخسارة هذه المناطق سيضع هذه القوة في حالة توتر دائم تؤثر في قراراتها وتصرفاتها وتماسكها وقد تسبب انهيارها لاحقاً.
لا يعتبر قصف جيش الإسلام أهدافاً في مدينة دمشق قصفا عشوائياً أو كثيفاً (مقارنة مثلا بقصف النظام الموثق بالفيديو من أكثر من جهة لمدينة نوى التي قصفها بما يقارب 240 صاروخ غراد على الاقل خلال أقل من دقيقتين أو قصفه لجوبر بعشرات صواريخ الاورغان والسميرش التي يستطيع صاروخ واحد منها تدمير بناء من عدة طبقات) بل يعتبر قصفاً محدداً وانتقائياً لأهداف معينة وهو مختلف عن القصف التمهيدي السابق لعمليات الهجوم الذي يطال قطاعات كاملة من محاور الهجوم بل يستهدف نقاطاً وأهدافا محددة فقط.
ما هو مستوى الاضرار على المدنيين لهذه الهجمات؟
على الرغم من التسريبات عن الخسائر في قوات النظام لم تسجل الكثير من الخسائر في صفوف المدنيين بسبب هذه الهجمات الصاروخية، وهذا عائد لعدة أسباب أهمها استهداف جيش الاسلام للمراكز الامنية والعسكرية فقط واستخدامه صواريخ من أنواع محددة، يغلب عليها صواريخ type63)) أو أنواع مشابهة وهي أساساً صواريخ منخفضة الفاعلية ويبدو أنها استخدمت لتخفيض دائرة التأثير وتركيزها فقط في المراكز المستهدفة لتجنب الاضرار بالمدنيين.
لا تحمل هذه الصواريخ رؤوساً متفجرة كبيرة (كحال صواريخ الاورغان والسميرش أو حتى الغراد) فالرأس الحربي لهذه الصواريخ لا يتجاوز ثمانية كيلوغرامات منها أقل من كيلوغرامين من المتفجرات، وتأثيرها أساساً ضد الأفراد في المناطق المفتوحة وليست مخصصة ضد التحصينات، وقطر دائرة التأثير لها هو سبعة أمتار ضد الأفراد وتؤثر شظاياها في الأبنية حتى خمسة وثلاثين متراً فقط، أي أنها نوعية مختارة لتخفيض احتمالات الأذية للمدنيين والأشخاص القاطنين قرب المراكز الأمنية.
إضافة إلى أن اطلاق هذه الصواريخ لا يتم بغتة بل يعطى المدنيون إنذاراً مسبقاً بوقت اطلاقها لأخذ الحيطة والحذر والتزام بيوتهم لأن جدران الأبنية تؤمن حماية مقبولة من شظاياها.
أما بالنسبة لدقة هذه الصواريخ فهي مقبولة لحد ما، فدائرة الخطأ لها تجعلها عموماً تسقط داخل الأهداف التي هي عبارة عن مقرات أمنية وقطعات عسكرية، لا تقل أبعادها عن 100 متر عرضاً و100 متر طولاً وكل الدمشقيين يعرفون حجم وأبعاد هذه المقرات والمراكز الأمنية وضخامتها. هذه الأبعاد تجعل هذه الصواريخ مناسبة للرماية عليها لأنها ليست أهدافاً نقطية، وليست مجرد أبنية صغيرة ضمن مناطق مكتظة تجعل الحاجة لأسلحة دقيقة حاجة حتمية.
وحتى إطلاق هذه الصواريخ يتم بعد أخذ الاحداثيات من الخرائط الفضائية لبرنامج Google earth، والتي تؤمن دقة في قياس المسافات تخفض احتمالات الخطأ في الرمايات الناتج عن سوء تقدير بعد الهدف وانخفاض قطر الخطر لشظاياها يساهم في حماية المدنيين خارج هذه الاهداف.
الاستمرارية هي مفتاح النجاح
ليست حرب غزة مع اسرائيل ببعيدة عنا فالميزة التي تمتعت بها المقاومة في غزة هي قدرتها على الاستمرار في اطلاق الصواريخ، والتي واضبت على اطلاقها بمعدل وسطي هو خمسين صاروخاً يومياً، وعلى نفس الخطى أعلن الجيش الحر سابقاً أن الدفعة أو الرشقة الصاروخية ستكون بحدود 100 صاروخ ثم أعلن عن رفعها إلى 1000 صاروخ.
ليس المهم فقط عدد الصواريخ التي تطلق كل دفعة، ولكن استمرارية هذا النوع من الهجمات الصاروخية بوتيرة واحدة لأطول وقت ممكن هو العامل الأساسي للنجاح وتحصيل الأثر المرجو.
فمجرد حملات قصيرة حتى لو كانت بعدد كبير من الصواريخ لن يكون لها أثر وستعطي النظام مبرراً لتشديد قصفه على المناطق المدنية، واطلاق حملات انتقامية بحجة الرد على مصادر القصف.
ما هي القدرات الموجودة لدى النظام للرد على هذه الهجمات أو ايقافها؟
يعتبر جيش النظام جيشاً متخلفاً من نواحي تقنية عديدة أهمها تجهيزات تحديد مواقع اطلاق المدفعية المعادية أو ما يعرف باسم (رادرات مصادر المقذوفات)، والتي تعتبر جزئاً أساسياً من تسليح أية بطارية مدفعية في القرن الحادي والعشرين، لكن لا يوجد دليل على تواجدها لدى النظام (على الرغم من وجود احتمال لذلك).
فالنظام وبسبب تخلف جيشه التقني غير قادر على تحديد مصادر إطلاق الصواريخ، والرد عليها بهدف تدمير القوى البشرية والوسائط النارية التي تطلق على مواقعه الصواريخ (بخاصة أن معظم هذه الصواريخ لا تترك خطوط دخان خلفها تساعد على تحديد مصادرها بسبب طبيعة الحشوة الدافعة لهذه الصواريخ).
حتى سلاح الجو عنده غير كفؤ للقيام بهذه المهمة فتبقى احتمالاته محدودة، وتنحصر في الطائرات بدون طيار وبعض المروحيات التي ركب عليها تجهيزات استطلاع هي عبارة عن كاميرات (نهارية\ ليلية)، اضافة للجواسيس لتحديد مناطق اطلاق الصواريخ وتدميرها أثناء عملها.
بسبب عجز النظام عن التعامل نارياً مع القوى التي تهاجمه وإيقاف الهجمات الصاروخية ضده، فهو يضرب بشدة المناطق المدنية والحاضن الشعبي لهذه القوة ويستخدم كل ما لديه لذلك، ولا يعتقد أن النظام سوف يخفض من مستوى هجماته بسرعة على هذه المناطق، لأنه يعتبرها مكافئاً أو تعويضاً للقصف الذي يتلقاه ولأنه حافظ في فترات سابقة على معدلات قصف وغارات مرتفعة في مناطق أقل أهمية بعيدة عن مناطق قدرته النارية الرئيسية، فغوطة دمشق في مرمى الكثير من بطاريات المدفعية والصواريخ وضمن نطاق العمل للكثير من المطارات العسكرية.
لذلك لا يتوقع تخفيض النظام لحدة قصفه الانتقامي على المناطق المحررة في الغوطة وهذا عائد لعدة أسباب أولها عجزه عن الرد على مصادر النيران واسكاتها، ولتحسين صورته بين مؤيديه فهو بالقصف الشديد يحاول اجبار الجيش الحر على التوقف عن قصفه تجنبا للمزيد من الضحايا والدمار الناتج عن القصف الانتقامي، وأخيراً استشعار النظام للخطر الحقيقي ورغبته إحداث تدمير هائل في محيط دمشق قبل الانسحاب منها لتكون في تلك الحالة مجرد مناطق مدمرة يستحيل الحياة فيها.
حرب الاستنزاف التي يبدو أنها بدأت في دمشق سوف تؤدي اذا استمرت بما يكفي لصدع حقيقي في البنية البشرية الداعمة للنظام، وانهيارها لاحقاً وخاصة عند العجز عن إيقاف هذه الهجمات.
التعليقات (4)