فالتشبيح الذي استطاع ملء التراب السوري من شماله إلى جنوبه، قرية قرية وحارة حارة بهذا العدد الهائل الذي قام بفعل أساسي في قمع الناس بطريقة تفوّق فيها حتى على جيشه الذي كان يعده لعقود لهذه المرحلة، هذا التشبيح لم يكن وليد فكرة توازت مع الثورة، والسوريون يدركون حجم ذلك الانحطاط الذي رافق عقود هذا الحكم منذ نشأته، من خلال أثر هذه التنظيمات البعثية التي سممت المجتمع وتسلطت عليه في كل مكان.
ترافق ذلك أيضاً مع حل النقابات المهنية المختلفة بالسبعينات، لخلق نقابات تحمل ذات الطابع التشبيحي الذي يحاصر السوريين أينما توجهت أنظارهم ومهما كانت مهنهم، محامين ومهندسين وأطباء ومعلمين وغيرهم، بما فيه اتحاد كتابهم الذي من المفترض أنه اتحاد مفكري الأمة.
قد يكون من السليم توصيفهم بأنهم أفرع أمنية مرادفة للأمن وليس للحزب، فهي وعلى مدار عقود كانت عبارة عن غرف عمليات لمراقبة المجتمع وتفعيل العلاقات الرخيصة بين أبنائه وتحطيم بنية القيم العامة، وتسويق الانتهازية واللصوصية واللامبالاة وإبراز شخصيات على مستوى القرى والمدن والوظائف لا تتمتع بأية مواصفات أو مؤهلات ذاتية أو عامة، لتكون مفتاح الوصل مع الدولة مقابل تهميش الشخصيات الفاعلة والمتوازنة والتي لا تقبل الخطأ أو التعدي بأي شكل من الأشكل على الحقوق العامة والخاصة، ولا تستند على الوصولية في علاقاتها مع الآخر.
فشبيبة الثورة أمسكت عصب الجيل النابض بأهم سنوات العمر حساسية ونمواُ للإنسان، وطوعته بعد ما استلمته من طلائعها، ليكون جاهزاً لحمل كل الانحرافات التي يحتاجها هذا النظام،ومن هنا تم فصل المجتمع السوري إلى إما منضوياً تحت راية التشبيح، أو مبتعداً نحو تأمين حياته وحياة أسرته بكرامة لكنه عرضة للتشبيح.
استثمر هذا النظام جيداً في هذه التركيبة التي سرت كالسرطان في جسم المجتمع، لتصبح حتى السرقة والنصب والسمسرة والرشوة أمور طبيعية في الحياة العامة، والمفارقة أن ذلك النموذج الذي غطى تراب الوطن كاملا، هو ذاته كان يحتفل بالأعياد القومية والوطنية ويرفع لافتات الشهادة والمقاومة ويعطي صكوك وطنية لمن يشاء ويخون من يشاء، لتصبح فلسطين وقضيتها أهم المنافذ التي دخل منها التشبيح السياسي على السوريين، حيث بضعة شلل للنصابين والمرتشين هم أولياء أمر القضية كاملة.
لم يقتصر هذا التشبيح السياسي على السوريين فقط بل تعداه إلى تشبيح على العرب كلهم، فبسهولة يمكن اتهامهم كدول بالخيانة والتآمر وما إلى ذلك، حتى على المستوى الدبلوماسيكوزراء خارجية وسفراء، امتهنوا التشبيح ليس على السوريين في الاغتراب فقط، بل على دول أوربا وأميركا قاطبة، والجعفري نموذج حي للتشبيح في أروقة منظمة دولية وعلى الهواء مباشرة.
من خلال ذلك وللأسف انتقلت عدوى التشبيح إلى بعض صفوف المعارضة، مدنية وعسكرية، وكأن السوريين لم يكفهم ما عانوه من تشبيح أزلام ومرتزقة النظام، لنقرأ هنا وهناك التخوين والاتهام ومنح شهادات ثورية لهذا ونزعها عن ذاك، ليكتمل المشهد في لمة مفاوضات مع النظام يشبحون من خلالها على أولياء الدم السوري ببضعة عبارات.
منذ بداية الثورة طالب السوريون بمظاهراتهم بحظر جوي، وعندما طالبت به تركيا أصبحت مستعمرة، طالبوا بتدخل العرب وإذا قدمت أية دولة خليجية مساعدة إغاثية تصبح الدولة كلها تسعى لشراء ذمة الثورة، طالبوا دول العالم بالتدخل وكف يد الأسد عن قتل شعبه، وعندما يجتمع معارض سوري مع سفير لأي دولة يتهم بالخيانة والعمالة لأمريكا أو فرنسا أو غيرها وهكذا، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل إن تقدم رجل أعمال ميسور لتقديم شيء يعين على تخطي المأساة، يجب وضعه بقفص الاتهام والبحث بنواياه وتقييمه مع عطائه، عوضاً عن تقديم الشكر لحثه وحث الآخرين بالاقتداء به.
وإن صاح مقاتل الله أكبر بلحظة نصر أو شهادة، يصبح متطرفاً وعليه إصدار بيان يؤكد فيه سوريته الفسيفسائية.
مايؤلم في هذا المشهد المتداخل بين النظام وبعض المعارضين، أن سمة طلائع وشبيبة "الثورة البعثية" انتقلت إلى غرف بعض ما يسمى بنشطاء المجتمع المدني الذين صنعتهم بضعة دولارات يتقاضونها لتمرير الوقت السوري النازف، معتقدين ومصدقين أنهم صفوة المجتمع السوري مع بضعة لايكات ينالونها لبضعة آهات أو شتائم على صفحات الفيس وغيرها، والمؤسف أن دافعي تلك الدولارات يعلمون أنهم يستثمرون بالمكان والأشخاص الخطأ، لكنهم يواظبون على ذلك مستثنيين طاقات سوريا الحقيقية من الفعل والتعبير عن رؤيتها بتشكيل خطاب ووعي مجتمعي غاب لعقود عن الشارع السوري، لتتكرر مأساة تحطيم وتهميش الكثير من كوادر سوريا تماماً كما همشها البعث بهذا النظام المجرم.
هنا على الأقل في تركيا، تتنامى علاقات خلف الكواليس بين هذا النوع من الناشطين، سيكون أثرها مؤلماً لسنوات في مستقبل البلاد، وقد انتشروا في الكثير من المكاتب أو "الدكاكين" الإعلامية والثقافية والبرامجية والإغاثية، بما فيها مؤسسات المعارضة الرسمية بطريقة عجائبية، لا شك هناك خميرة هامة بكثير منهم ولكن استثمار ذلك دخل بطريقة غير منضبطة، ولا تملك منهجاً مدروساً يحوّل تلك البنية التي اعتادت على الوصولية، إلى بيئة يسودها التعاون وتكريس النجاح ودعمه للدخول في دولة جديدة قادمة بكوادر معافاة.
التعليقات (1)