تاريخ الكاريكاتور: فنٌ يتألق حين يغرق التاريخ في المآسي!

تاريخ الكاريكاتور: فنٌ يتألق حين يغرق التاريخ في المآسي!
ينقل الرسم أو يبث فكرة أو شعوراً، غضباً أو خوفاً أو حباً. ومنذ كان الإنسان، يتقدم الرسم تعريف خاصياته، وهو من لغاته العامة والمشتركة القليلة، المستغنية عن الكلمات، شأن الموسيقى. وتحول «شارلي إيبدو» مأساة عالمية مرده إلى هذه الحال. وتتولى واسطة الاتصال الأكثر حداثة، الإنترنت، بث أقدم وسيلة تعبير إنسانية، الرسم. وحين يضطلع الرسم بالانتقاد، وبمسؤولية أخلاقية وسياسية، يسمى كاريكاتوراً أو رسماً هاجياً أو «كارتون». ويُخَط بالأسود والأبيض، أو يلون، بحسب العصور والتقنيات، ويرفق بنص أو بعنوان أو بشرح طويل أو قصير أو بشاهد، أو لا يرفق.

تأثر الكاريكاتور في علانيته وذيوعه!

ولفظة كاريكاتور، في الفرنسية، تعود إلى القرن الثامن عشر. وهي استعيرت من الإيطالية، كاريكاتورا، واللفظة الإيطالية اشتقت من فعل كاريكاري، حمَّل أو أثقل الحمل. ويقال أحياناً في الصورة التي تظهر مثالب من تصور أنها ثقيلة. وشاعت لفظة كاريكاتورا الإيطالية منذ القرن السابع عشر، وشأن الفرنسية، استعارتها الإنكليزية والألمانية. وظهور اللفظة في إيطاليا ليس غريباً. فبعض أكبر رسامي النهضة، مثل ليوناردو دافنتشي، رسموا صوراً جانبية لمسنين تليق بجيروم بوش (1450-1516)، تكاد أنوفهم وذقونهم أن تتصل، والفم ثنية مندلقة، والبشرة نسيج رخو ومهلهل. وإذا تثاءبوا، اقتصر الوجه على حنك، على ما صوره (فرانسيس بايكون) بالأمس القريب. ورسم ميكيلانجلو رؤوساً تكاد تكون حيوانية، ويمثل الرسام على بلهها بأذني الحمار، وتشارف المسخَ إلى نعجة أو عشبة بحرية. وملأ (أغوستينو كاراتشي) بعض أوراقه بعشرات الصور الجانبية ذات القسمات المفرطة الالتواء والنظارات الجانبية والمنزلقة.

وبعض قطع السيراميك اليونانية التي تعود إلى القرن الخامس والقرن الرابع (ق.م.)، رسمت عليها باللون الأسود وجوه مضحكة، أو بذيئة، أو غريبة، تنم بوظيفة أواني الشرب التي رسمت عليها. ولعل أقدم كاريكاتور يعود إلى آلاف السنين، وصنعه إنسان عاقل (أومو سابيانس) حين أراد السخرية من شبيه له فصوره على قطعة كلسية، أو على عظمة. وعلى وجه التأكيد، يقاس أثر الكاريكاتور منذ 4 قرون بعلانيته وذيوعه، وبإعرابه عن أفكار واضحة وصريحة. ورسوم دافنتشي وميكيلانجيلو وكاراتشي لا تستجيب هذه الشروط. فهؤلاء الرسامون اعتزلوا شؤون الدنيا ومشاغلها في محترفاتهم، وحملُ رسومهم على دلالة سياسية أو دينية أمر عصيب ولا سبيل إليه.

السخرية من الوجوه!

وهذه ليست حال كراناك القديم حين يحفر صورة أحد الباباوات ممتطياً صهوة أنثى خنزير، وحاملاً بيده قمامة قبيحة، أو حين يرسم رجلاً يستعمل مبخرة على شاكلة آنية منزلية، أو مسخين مضحكين واحدهما مشقق الجسد الأنثوي والثاني يغطي الرأس بجزء من جسده، ويكني بهما عن رأسي هيئتين عامتين. ومن غرائب الأمور أن كراناك (أو كراناش) القديم مسخ مارتن لوثر، وجه الإصلاح الديني البروتستانتي بألمانيا في القرن السادس عشر، في رسوم مشهورة، وأصدر مع لوثر نفسه، في 1521، كتاباً وسماه بـ(جلجلة المسيح والمسيح الدجال)، وضمناه فقرات من العهد الجديد اختارها لوثر وحفرها كراناك على الخشب. والمسيح الدجال هو خصم داعية البروتستانتية.

ومنذ 1520 حفر كراناك في النحاس صورة لوثر على سبيل نشر الدعوة. وعلى مثالها حفر هولباين الفتى، في 1522، صورة ناتئة للمصلح تجمع الكاريكاتور إلى الاستعارة والكناية، وسمها بـ«هِرَقلس جرمانيكوس»، أو هرقل الجرماني. فجعل لوثر مجسَّم بطل الإيمان الصحيح الذي يصرَع بهراوته المدببة فلاسفة ومتكلمين منهم أرسطو وغليوم الاوكامي وتوما الاكويني، وعلى وجوههم عبارات الرعب، وعلى أجسامهم أسماؤهم. وليست المنحوتة المصورة جزءاً من كتاب، بل هي مطبوعة على ورقة حرة أشبه بمنشور في أيامنا.

السخرية من الكنيسة!

وعلى هذا انخرط فنانون مجددون ومبتكرون في صنع صور ذات دلالات دينية وسياسية ظاهرة وصريحة، وقصدوا نشرها والإقناع من طريقها. ويقتضي هذا القصد طبع نسخ كثيرة ورخيصة الثمن منها. ويقتضي، من جهة أخرى، صوراً لا شبهة فيها، وتتوسل بالحدة القاطعة عند الضرورة، ولا مواربة في تعمدها الفضيحة أو الإضحاك. ولم يتردد هولباين في مباشرة البذاءة في 41 محفورة مصورة طبعها في 1538 تناول فيها رقص الموت، وأعملها في رأس الكنيسة، وأتبع به الكرادلة والمطارنة وآباء الأسلاك الكهنوتية وغيرهم من أعيان الإكليروس. والفرق ضعيف بين موكب أعيان الهيئة اللاهوتية الذين يحصدهم ملاك الموت في رسم هولباين وبين مواكب الجنرالات والجلادين والحكام الذين رسمهم رسامو مشغل الحفر الشعبي (تاليز دي غرافيكا بوبولار) المكسيكي المولود في 1937.

فالأصل مشترك وواحد: التنديد بواسطة الضحك، المرير في بعض الأحيان، بالسلطات والسلطة، وبالفروق والمراتب والتفاوت عموماً، وأخيراً بالضغائن والكراهية. والنهج يكاد يكون واحداً: الرسم المجرد من الزوائد والنوافل، الأسود والأبيض، الصورة المختصرة في ملامحها العامة. والجمهور المأمول والمتوقع هو كل الناس من غير تخصيص ولا تمييز. ويقتصر الفرق بين «شارلي إيبدو» وبين مشغل الحفر الشعبي على التقنيات ووسائل الاستنساخ والسرعة والإحاطة. وما عدا ذلك، يقصد منطق العملين إلى الإيلام الجارح، وصنع صور تطعن في غير ما يراعى ويحترم، وتُحمَّل عنفاً يضاهي عنف التعسف والقهر. والقهر قد يكون سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، أو اعتقادياً أو هذه كلها معاً.

الاضطرابات الدامية تصنع ذروة الهجاء الكاريكاتوري!

ويبلغ الهجاء التصويري ذروته إبان الاضطرابات التاريخية الدامية. ومن هذه الأوقات حروب القرن السابع عشر الأوروبي غداة الإصلاح البروتستانتي. ومائيات جاك كالّو «بؤس الحرب العظيم»، في 1633، ليست تنديداً عمومياً ومجملاً بالحرب بل هي تخصص مجازر جيوش لويس الثالث عشر حين استولت على اللورين، وشارفت خاتمتها مع احتلال مدينة نانسي في شهر أيلول (سبتمبر) من هذا العام. فهذه المائيات سياسية، وهذا ما يثبته رفض كالّو الدخول في خدمة ملك فرنسا. وشأنها، من هذا الوجه، هو شأن رسوم غويا «كوارث الحرب»، وعددها 82 رسمها صاحبها بين 1810 و1815، ووسمها في وقت أول بـ«النتائج المروعة للحرب الدموية التي شُنت في إسبانيا على بوينابارته» (شهرة الإمبراطورة الفرنسية في لفظها الإيطالي الكورسيكي).

وسبق (غويا) إلى التشهير بالبربرية النابوليونية البريطاني جايمس جيلراي (1757-1815). فبعد أن أعمل جيلراي أسنانه في جورج الثالث وزوجته شارلوت وبلاطهما، اكتشف الثورة الفرنسية، وعهد القنصلية والامبراطورية الأولى، والموضوعات التي لا تحصى والكامنة فيها. ومنذ 1789، تولى رسم يوميات الحوادث الفرنسية الثورية ثم النابوليونية. ولاقى رواجاً دلت عليه واجهة مكتبة حنة هامفري، صاحبة دار نشره ومروجة رسومه وصاحبته، فامتلأت بنسخ الرسوم الكثيرة، وحجبت منظر الصالة الداخلية. وازدحم الرصيف بالمتدافعين الساعين في تصفح آخر رسوم الرسام اللندني الساخر. وتوسل جيلراي بمتعة اللندنيين إلى صناعة رسوم أخرى موضوعها تدافع اللندنيين وطلبهم الاستمتاع بالرسوم الساخرة. ودعا الجمهور إلى التدافع سعر الرسوم الرخيص، وألوانها الفاقعة التي عظمت وقعها وثقلها.

الكاريكاتور في الصحف اليومية!

وبينما كان (غويا) و(جيلراي) يحفران رسومهما في النحاس، ابتكر الكاتب المسرحي الألماني ألويس سينفيلدير، في 1796، الليتوغرافيا أي الرسم بالحبر الدسم أو المشبع على صفحة حجرية ملساء من غير حاجة إلى الحفر فيها. والوفر في الوقت جراء الغنى عن الحفر، كبير. ويمكن إعمال طريقة الطباعة الجديدة في النسيج القطني وفي الورق. وكان جيريكو (1791-1824) أول فنان استثمر الليتوغرافيا في الرسم، قبل انتقالها إلى الطباعة. وعظمت هذه نشر الصور الهجائية وتأثيرها في الجمهور. ورافق الحفر على الخشب ابتكار الليتوغرافيا. وعمد (توماس بيويك)، الحفار البريطاني، إلى إحلال الصفحة الخشبية الملساء والمتصلة محل القطعة المعدنية، وحرر الطباعة والاستنساخ من الأحمضة والمحلولات الكيميائية. فوسع رسامو الكاريكاتور الفرنسيون من أمثال (هونوريه دومييه) و(غوستاف دوريه) و(جان – جاك غرانفيل)، منذ 1818، طباعة رسومهم الساخرة في الصحف اليومية.

وتعاقب الابتكارات التقنية والعملية مهد الطريق إلى صدور صحيفة «كاريكاتور»، في 1830، عام الثورة (بفرنسا) على الملكية المستعادة. وجمع صاحب الصحيفة الجديدة، (شارل فيليبيون)، كبار رسامي الكاريكاتور الفرنسيين المعاصرين، وهم، إلى دومييه وغرانفيل، (أشيل ديفيريا) و(أوغست رافيه). وزاد هؤلاء على الابتكار والتجديد التقنيين الرسم المشترك أو الجماعي.

(شارلي ايبدو) تحذو حذو سالفتها!

وعلى هذا، حذا «شارلي إيبدو» حذو «كاريكاتور». والجدة الثالثة هي المجابهة السياسية. ففي 1832، حكم قضاء لوي- فيليب بحبس دومييه 6 أشهر لرسمه العاهل الفرنسي على صورة غارنغانتويا، شخصية رابليه الروائية النهمة والشرهة. وحل دومييه ضيفاً مقيماً على القضاء طوال عهد «نظام تموز الملكي» (1830-1848)، ثم في أثناء الامبراطورية الثانية إلى حين تركه صحيفة «شاريفاري» التي ورثت «كاريكاتور»، في 1860. ومكانة دومييه، وهو عَلَم على فن الكاريكاتور، يدين بها إلى جمعه سمات شخوصه المتفرقة في صور مركبة على قدر دَيْنه إلى موقفه السياسي والأخلاقي. والرسم الهجائي والسجالي هو نقيض السلطة وخلافها. وهو رد على الصور الرسمية المجردة والبطولية والإعلانية. فالكاريكاتور، تعريفاً، هو فن معارض، وفن جاد على رغم هزله، على ما وصفه بودليير في 1858، وقد يبلغ جده تعريض صاحبه للقتل.

* ناقد فني، عن «لوموند» الفرنسية (ملحق «كولتور إي إيديه»)، 17/1/2015

*إعداد منال نحاس – (الحياة) 28/1/2015

* العناوين الفرعية والرسوم من اختيار (أورينت نت)

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات