ملثمان. يقتحمان مقر الجريدة، الخاضع لحراسة الشرطة منذ سنوات، بمنتصف النهار. في توقيت اجتماع التحرير. يناديان على المجتمعين بالأسماء، ثم يفتحان النار عليهم، بدأَ من مدير التحرير الشهير "بشارب"، وفقاً لما كشفته صحيفة "لوموند".
مصادفة عجيبة أم ضربة معلم!
12 قتيلاً، بينهم مُسلمان "مدقق لغوي، وشرطي". حصيلة الهجوم، الذي لم تتجاوز مدته الخمس دقائق.
ولعلها، مُصادفة بحتة، أكثر منها ضربة معلم محترف. أن يتطابق عدد الضحايا، مع عدد الرسوم المسيئة للإسلام، التي أعادت الجريدة نشر بعضها في شباط 2006، نقلاً عن صحيفة "بيلانس بوستن" الدانماركية، رغم ما أثارته من احتجاجات صاخبة، وعنيفة حينئذ.
جمعيات إسلامية. حاولت يومها، مُعاقبة الصحيفة، من خلال مُقاضاتها، لكن المحكمة. اعتبرت أن الرسوم الكاريكاتورية، استهدفت الإرهابيين، وليس المسلمين.
حياة تحت التهديد!
لم تحصد "شارلي إيبدو" شهرة دولية، تجاوزت حدود فرنسا، ولا باعت نحو نصف مليون نسخة، بدلاً من "55 – 75" ألف نسخة متداولة اسبوعياً فقط. إنما أيضاً، حجزت لنفسها أسماً في لائحة المطلوبين لمجموعات مُتطرفة عديدة. وهي تعيش منذ 8 سنوات تحت التهديد، بحسب تصريحات محامي الصحيفة ريشار مالكا، لإذاعة فرنسا الدولية أمس.
اللافت، أن أحداً لم يتبن العملية الأخيرة، قبل يومين رسمياً، باستثناء حسابات متعاطفة مع "داعش" أو محسوبة عليه. هللت للحدث الدموي، وحاولت ربطه برسم كاريكاتوري "للخليفة" البغدادي، نشرته الجريدة قبل أيام، في حين نُقل عن المُنفذين، صراخهما "انتقمنا للنبي محمد". الأمر الذي يرجح، أن العملية تمت تنفيذاً لتهديد "تنظيم القاعدة"، الذي اطلقه فور إعادة الصحيفة نشر الرسوم.
الطريق إلى الشهرة يمر عبر السخرية من ديغول!
يبدو، أن الجريدة الأسبوعية الساخرة، ومنذ تأسيسها عام 1970. اختارت "إثارة الجدل" طريقاً للانتشار والشهرة. لذا لم تتردد باستفزاز مختلف الأديان، خاصة السماوية. كذلك طالت سهام سخريتها مشاهير وسياسيين، حتى الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديغول، كان هدفاً لها. إذ تناولت وفاته 1970، بصفحة ساخرة. ما دفع السلطات الفرنسية إلى حظرها مؤقتاً، بسبب محتواها، الذي اعتبرته عدائياً جداً، وكان اسم الصحيفة آنذاك "هارا كيري"، أسسها الكاتب فرنسوا كافانا، والفنان الساخر جورج بيرنيي "الأستاذ شورون".
عادت الجريدة للصدور تحت اسمها الحالي "شارلي إيبدو"، لتتوقف مجدداً، واضطرارياً مرة آخرى بين عامي 1981 – 1992.
جرأة مشهود لها!
لا تعترف الصحيفة بما يسمى "اللياقة" سواء أكانت اجتماعية أم سياسية. وتُقدم تفسها على انها حاملة لواء "حرية التعبير"، دون تمييز، أو محاباة، أو خوف من أحد.
الحقيقة، أن المتطرفين اليهود بدورهم. وقعوا في مرمى سخرية الصحيفة، ولم يسلم كذلك بابا الفاتيكان "بنديكتوس السادس عشر" منها، لكن دائماً كان "الإسلام" هدفاً رئيسياً لسخرية الجريدة، دون فصل بين تنظيمات الإسلام السياسي، أو الجهادي، و بين "النبوة".
هذا الخلط. بدا أوضح ما يكون، في عدد الصحيفة الخاص، الذي اصدرته في تشرين الثاني 2011، بمناسبة فوز حزب النهضة بأغلبية الأصوات، حيث حرصت إدارة التحرير، على تضمين العدد، الذي صدر بعنوان "شريعة إيبدو" فقرات مسيئة للنبي محمد (ص).
في ذات اليوم، تعرض مقر الصحيفة "لحريق"، تضاربت الأراء بشأنه، حيث شكك البعض بأنه "مفتعل"، بينما وجهت الحكومة الفرنسية أصابع الاتهام إلى "مسلمين متطرفين". في حين تمكنت الجريدة من زيادة مبيعاتها إلى 400 ألف نسخة، ونفقت من الأسواق، وهو رقم مهول بالنسبة للصحيفة.
الصعود إلى الهاوية!
أعادت "شارلي إيبدو" الكرة، في كانون الثاني 2013، عندما نشرت عدداً مؤلفاً من 64 صفحة، يحكي الجزء الأول مما أسمته حياة الرسول محمد "ص"، عبر رسوم كاريكاتورية قاسية بسخريتها، دفعت رئيس تحرير الصحيفة ستيفان شاربونيه (قُتل في الهجوم الأخير) للتعليق،" أن الناس سيشعرون بالصدمة حتماً عند تصفحهم هذا الاصدار".
في عددها الأخير، عنونت جريدة شارلي إيبدو (توقعات المُنجم ويلبيك: في العام 2015 أفقد أسناني ... وفي 2022 أصوم شهر رمضان). وجاء الاصدار بالتزامن مع صدور رواية "سوميسيون" عن أسلمة المجتمع الفرنسي، والتي أثارت بدورها الجدل.
قبل الهجوم على مقرها بساعات فقط، غردت الجريدة في حسابها على تويتر، رسم للبغدادي، وهو على منبر، الرسم تضمن عبارات ساخرة، القصد منها تمنيات بالصحة لقراء الصحيفة، ويبدو ضيق الوقت ما بين نشر التغريدة، والهجوم على مبنى الجريدة. كافياً لاستبعاد احتمال انه رد على الرسم الساخر للبغدادي، لصالح احتمال "الانتقام" للرسول محمد (ص).
ما بين القاعدة و "داعش"!
من الصعب التكهن، ما إذا كان الشقيقان شريف كواشي "32" عاماً، وسعيد كواشي "34" عاماً. عضوان في تنظيم ما بشكل أساسي، أم خططا ونفذا العملية، بمساعدة آخرين، من خلية، شكلاها بنفسيهما، والمعروف أن أحدهما، صاحب باع طويل، في التعامل مع الحركات الأصولية المتطرفة، حيث ساهم في شبكة لإرسال مقاتلين إلى العراق لصالح أبي مصعب الزرقاوي حينذاك، كما ورد اسمه خلال التحقيق بمحاولة تهريب "إسلامي جهادي" محكوم في فرنسا بالسجن مدى الحياة، لتنفيذه اعتداء إرهابي في باريس، أوقع 30 جريحاً.
الصحيفة مستمرة!
المثير فعلاً، أن الجريدة ستصدر في موعدها الأسبوع المقبل، رغم المأساة الدموية، وفقاً لما أكده مصدر مقرب من الصحيفة، التي اتخذ محرروها قراراً حاسماً بالاستمرار، والعمل مبدئياً في المنازل، لحين إعادة فتح المقر، بعد انتهاء التحقيقات.
الواضح، أن "شارلي إيبدو"، لم تكن يوماُ بعيدة عن لعبة "المغامرة"، في سعيها لزيادة مبيعاتها، ولطالما فعلتها. كلما تعرضت لأزمة مالية، أو رغبت بتوسيع دائرة شهرتها، لكن مشكلتها، بأنها لم ترسم حدوداً حمراء للعبتها الخطيرة، مع خصم، لا يمزح، لا يُناقش، و لا يتسامح بأدنى انتهاك، لما يعتبرها هو، حدوداً، يُفصلها شرعيوه، ولا فارق بين "إسلامي جهادي" وآخر، حين يسيء الموضوع لشخص ومكانة الرسول "ص".
اللعبة القاتلة!
غالباً، ما قبضت الصحيفة ثمناً، لما باعته من بضاعة لقارئ "زبون"، مصاب بفوبيا "الإسلاموية"، وهذا ما سعت إليه دائماً، ليس من مبدأ معادي للإسلام والمسلمين، بقدر ما هي تجارة بسلعة مطلوبة في سوق إعلامية، تحت يافطة "حرية التعبير" البراقة، والتي من شأنها، أن تضفي على السلعة مزيداً من الجاذبية، لكن لم يخطر ببال هيئة تحرير الجريدة، أن تدفع دمائها كضريبة لمغامرتها، للأسف طبعاً.
ليس سراً، أن "شارلي إيبدو"، على هاوية الافلاس، إذ انخفضت مبيعاتها إلى حوالي 30 ألف نسخة، وتعاني عجزاً، أجبرها مؤخراً على اطلاق نداءات استغاثة، لجمع التبرعات، وانقاذها من التوقف عن الصدور.
الهجوم يُنقذ الصحيفة من الإغلاق!
المفارقة، أن الهجوم القاتل، حمل معه ترياق النجاة من الإفلاس، إذ من المؤكد، أن الاصدارات القادمة من الصحيفة، ستكون من المتصدرين لقوائم المطبوعات الأكثر مبيعاً. إن لم تتصدرهم بلا منازع. عدا التعاطف الشعبي، والرسمي، وما يمكن أن يفتحاه من بوابات للتبرع، والإعلان، والتمويل.
خسرت الصحيفة، ثمانية من كادرها، بين رسام ومحرر، على رأسهم مدير الصحيفة ستيفان شاربونيه "48" عاماً، الملقب "شارب" ، و المدرج على قائمة "المطلوبين" في مجلة "إنسباير" الصادرة عن تنظيم القاعدة باللغة الإنجليزية، في عدد شهر آذار/2013.
الخاسر الأكبر!
تبقى الجالية المسلمة، ليس في فرنسا فقط، إنما في أوروبا عموماً، هي الخاسر الأكبر، خصوصاً مع تزايد موجة "الكراهية والعداء" للمسلمين، وما شهدته ألمانيا من مظاهرات مناهضة لهم، وما تعرضت له مساجد في السويد من اعتداءات.
في فرنسا، تتفاعل الأمور بسرعة. هجوم ثان، راحت ضحيته شرطية بلدية جنوب باريس، فيما تعرضت عدة مساجد، في أماكن متفرقة من البلاد إلى اعتداءات، دون أن تُخلف ضحايا.
هل يغير الهجوم وجه فرنسا؟
ورغم الدعوة، التي اطلقها الرئيس هولاند للتمسك بالوحدة الوطنية، كافضل رد، إضافة إلى مناشدات لشخصيات سياسية آخرى، منها الرئيس السابق ساركوزي، والداعية إلى عدم الخلط بين الاعتداء، والوجود الإسلامي. إلا أن الانقباض الداخلي والتوتر على أشده، في صفوف الجالية المسلمة، وما يرافق هذه الحالة من حساسية اتجاه أي موقف أو تصرف، وتفسيره على انه "عنصرية"، وتتفق غالبية قدامى المقيمين بالرأي، أن أياماً كئيبة وطويلة بانتظار المسلمين، بل يذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن فرنسا قبل الهجوم. لا تشبه فرنسا بعده.
هواجس سورية!
للسوريين، الذين لم يحصلوا على حق اللجوء في فرنسا بعد، مخاوف تتفوق بالأولوية على "العنصرية". وتتعلق بإمكانية أن يؤثر الاعتداء سلباً، على طريقة التعامل معهم، في حين أن مناقشات الحاصلين على اللجوء، تتناول احتمال، أن يدفع الاعتداء بالحكومة الفرنسية إلى إعادة التعامل مع مافيا الأسد. هذا، إضافة إلى شريط من السيناريوهات، يبدأ من تورط نظام بشار في تنفيذ العملية الإرهابية، إلى ضلوع طهران، وصولاً إلى اتهام بوتين، بإعطاء الضوء الأخضر لتنفيذها، ولكل هن هؤلاء أسبابه للانتقام من سياسات باريس إزاء ملفاتهم الساخنة.
بالمقابل، وفي السياق ذاته. وجدت خارجية بشار في الاعتداء "فرصة"، لممارسة هوايتها، مرة بتسول الدخول في التحالف الدولي، وتارة في ممارسة التنظير و"الأستذة" حول الإرهاب وطرق محاربته، وضرورة تضافر الجهود لهزيمته. ما يؤكد أن الأسد. لا يريد حتى الآن تصديق أن مشكلته، هي مع الشعب، وليس مع الخارج، الذي يتلطى خلف عداوته المفترضة فيما قدم له بالواقع، أفضل ما لديه من تواطؤ، وصمت. ولا يزال.
التعليقات (10)