تجّار دمشق.. هل يُعَوّل عليهم في ثورتنا؟

تجّار دمشق.. هل يُعَوّل عليهم في ثورتنا؟
دمشق أقدم عاصمة مأهولة في العالم، هذه المدينة التي تميزت عبر التاريخ الطويل بأنها عاصمة التجارة في المنطقة، ولعل قصة رحلة الشتاء والصيف التي اعتاد عليها تجار الحجاز قبل الإسلام، ومشاركة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بإحدى هذه الرحلات، خير دليل على عراقة هذه المهنة في دمشق، ومن المنطقي والبديهي أن لا تنمو مهنة التجارة في أي منطقة على وجه البسيطة لتأخذ من الشهرة ما أخذتها تجارة وتجار دمشق، إلا إذا ترافقت هذه التجارة بعلاقات تجارية بين تُجارها مبنية على أسس من الأخلاق التي أصبحت عرف على مدار السنين.

والكثير منا يعرف ما كان لتجار دمشق من مساهمات إيجابية في العلاقات الإجتماعية في دمشق، فعلى سبيل المثال قام تجار دمشق بدور هام في وأد الفتنة الطائفية في دمشق عام 1860 وقاموا بحماية الدمشقيين المسيحيين من الغوغائين الذين أصبحوا يشكلوا تهديداً لهم، وأكثر من ذلك فقد منح تجار دمشق بعض المسيحيين الأمان وسكنوهم في أحيائهم ولعل حارة المسيحيين وكنيسة حنانيا في الميدان أكبر شاهد على ذلك.

ومن زار مقر مؤسسة مياه عين الفيجة يرى لوحة الشرف التي تبين الدور الهام لتجار دمشق في جر مياه عين الفيجة لإرواء أهالي دمشق.

تميزت تلك العلاقات بين تجار دمشق ببعدها كُل البعد عن ما يسمى بمفهومنا الآن الطائفية، فعلى سبيل المثال كان تجارسوق مدحت باشا في وسط دمشق متنوعين تنوع دمشق، فبدايته تجار العبي والملبوسات السُنة، وأوسطه تجار البهارات والقهوة والشاي والبزورات الشيعة، وفي نهايته تجار الشرقيات والتحف المسيحين ويجب أن لا ننسى التجار اليهود على يمين هذا السوق.

ومن التقاليد التجارية التي عاش بظلها تجار دمشق كقوانين ثابتة غير مكتوبة وجود حدود ثابتة ومعروفة للجميع ما بين فئات التجار، فالمستورد غير تاجر الجملة، وتاجر الجملة غير تاجر نصف الجملة، وهذا بالتأكيد غير تاجر المفرق، وأذكر عندما كنت طفلاً أن منطقة العصرونية (على سبيل المثال) والتي تتوسط سوق الحميدية بدمشق كانت مكان مخصص لتجار الجملة للأدوات المنزلية، ومن المستحيل أن يقوم تجار هذه المنطقة ببيع أي قطعة لأي زبون بشكل مفرق، وإذا باع مضطراً أو خجلاً فإنه يبيع بالسعر المُتفق عليه مع بائع المُفرّق.

كان هذا قبل استيلاء عائلة الأسد على الحكم في سوريا، التي سعت منذ اللحظة الأولى لاستلامها زمام الأمر في سوريا لتدمير طبقة تجار دمشق واستبدالها بطبقة جديدة يكون ولاؤها الأول والأخير لها، وبعد أن تمكن هذا النظام الإخطبوطي من ذلك بدأت العلاقات التجارية بالتغير رويداً رويداً، وقد كان هذا التغير بمساهمة كبيرة من رئيس غرفة تجارة دمشق راتب الشلاح (الذي يقال بأن والده رئيس المحفل الماسوني في سوريا). فهو مثلاً الذي أفشل إضراب تجار دمشق تضامناً مع مدينة حماة أثناء حملة القتل التي قادها رفعت الأسد على تلك المدينة، ونتيجة هذا التغيير في العلاقات التجارية، والفساد في أجهزة الدولة ظهرت طبقة جديدة من التجار في دمشق وهم بالغالب تجار واجهة لرجال النظام الذين تكدست ثرواتهم نتيجة السرقات التي مارسوها خلال عملهم وهذه الطبقة الجديدة من التجار لا يحكمها بعملها سوى درجة ولائها لنظام الحكم، ضاربين بعرض الحائط الأعراف والتقاليد التي عاش عليها تجار دمشق على مدار السنين، وحتى أن هذا التنافس الجميل والإيجابي الذي كان قائماً ما بين تجار دمشق وتجار حلب والذي أدى لإعتراف دمشق بالدور الصناعي الرائد لحلب واعتراف تجار حلب بالدور التجاري الرائد لدمشق، تحول في عهد الأسد لمنافسة على الولاء لكسب المزيد من الصفقات التي كانت محصورة بأيدي أزلام النظام من كبار ضباط الجيش والأمن، فمن كان أكثر ولاءً فالصفقات من نصيبه ولو أدى ذلك لضرر باقي التجار!

ولعلي أذكر في هذا السياق حادثة جرت معي بطلها صاحب معمل زجاج الشرق ـــ وهو مصنع أدوات منزلية زجاجية أقيم في حلب بمباركة من رجالات الأسد وربما بشراكه معه ـــ الذي أعطى أحد تجار منطقة العصرونية بدمشق وكالة حصرية لمنتجات معمله لدمشق والمنطقة الجنوبية وذلك بموجب إتفاق قانوني، وبعد قيام التاجر الدمشقي باستجرار كميات كبيرة من البضائع من معمل الشرق، تفاجأ بقيام صاحب المعمل بإرسال شاحنات صغيرة إلى دمشق ودرعا والسويداء محملة بالبضائع لتوزيعها على دكاكين المفرق في المحافظات الثلاثة وبسعر الجملة، وقد مرت أحد تلك الشاحنات للدكان التي كنت أعمل فيه خلال فترة الصيف وعرضت البضاعة بسعر أقل مما كنت قد تسوقته قبل يوم واحد فسارعت بالإتصال بوكيل المعمل وأخبرته بالموضوع فقام برفع شكوى في غرفة التجارة على هذا التصرف ولكن لا نتيجة لأن غرفة تجارة دمشق وغيرها من الغرف أصبحت أشبه بمقرات أمنية وحكومية في ظل نظام الأسد، وربما كان صاحب المعمل الحلبي أكثر ولاءً من الوكيل الدمشقي, ومثل هذه القصص أصبحنا نسمعها كل يوم وتمر مرور الكرام لدرجة أن الكثير من تجار دمشق وحلب وغيرها من المحافظات السورية آثرت على نفسها التوقف عن ممارسة التجارة في ظل هذا النظام أو آثروا الهجرة مع أموالهم خارج سوريا لأنهم لايستطيعون أن يكونوا مداساً لرجال الأسد. فبقي في البلد هؤلاء التُجار الذين هم من النوع الذي يستغلون حاجات الناس، فتراهم في مواسم الأعياد على سبيل المثال يغدقون الأسواق بأسوأ أنواع البضائع وبأعلى الأسعار، بينما تزخر الأسواق المجاورة لسوريا (لبنان وتركيا) بأعلى التنزيلات في هذه المواسم، (وهذا ما لمسناه فعلياً في رحلة اللجوء على تلك البلدان).

ولعل حافظ الأسد كان يعي منذ البداية أهمية تدمير طبقة التجار في دمشق وغيرها من المحافظات السورية وذلك تحسباً منه ليوم يشابه يوم 15/3/2011 يوم انطلاق ثورة سوريا المباركة على نظامه، حيث وقف أشباه التجار في دمشق وحلب وباقي المدن السورية موقفاً مناقضاً لتطلعات الشعب، ورغم القتل والتنكيل لم تنجح دعوة إضراب واحدة (سوى ما رحم ربي) لا بل أكثر من ذلك أن بعض التجار أيد النظام في قمعه للمظاهرات ومنهم من بقي صامتاً، وكل ذلك خشيةَ على مصالحه التي ارتبطت بنظام الحكم، حتى أن هناك البعض من التُجار قد استغل ثورتنا المباركة لزيادة أرباحه الملطخة بدماء شعبنا وذلك عندما احتكر السلع الغذائية ورفع أسعارها، والأنكى من ذلك أن بعض التجار فُرض عليه دفع الأتاوات لما يعرف بالشبيحة.

وخلاصة القول أن من يعول على تجار دمشق أو غيرها من المدن السورية كأنه يعول على هطول الثلج في آب، لأن التجار الحاليين ما هم سوى دمى يحركها النظام كيفما يشاء... فتجار دمشق الحقيقيون هم من اضطر للخروج بسبب تصرفات نظام استبداد أراد لهم أن يتحولوا لدمى بأيديه، ولأنهم أحرار رفضوا وتركوا البلاد وساهموا في النهضة التجارية للبلاد التي استقروا بها، هؤلاء هم من يجب التعويل عليهم في بناء سوريا القادمة سوريا العزة والكرامة.

التعليقات (6)

    اسعد الوراق

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    والله بأنك صدقت ياسيد سامر فلقد لمسنا نحن الدمشقيون على مدار حكم عصابة العسكر أو مايسمى بالبعث وخاصة بعد استيلاء المقبور حافظ على السلطة كيف صارت هوية مدينتنا تتغير بدءأ من سكانها الجدد الساحليون القرويون بموستوطناتهم التي صارت تحيط المدينة من كل جوانبها وشراء حديثو النعمة منهم للبيوت الفاخرة في المالكي والمزة وركن الدين والقصور ودخولهم سوق التجارة من خلال أزلامهم أمثال محمد حمشو والكثيرون الأخرون.

    سمير حرستاني

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    تحية لك أستاذ سامر كعكرلي من كل دمشقي حر وشكرا لأورينت نت ولغسان عبود هذه اللفتة الكريمة والكلمة المنصفة بحق تجار دمشق الذين ظلمهم السفلة وتطاول عليهم الرعاع!

    هبة

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    يجب التمييز بين الدمشقيين وتجار دمشق فتجار دمشق الذين أنبتهم النظام منذ أربعين عاماً كما ينمو الفطر على المزابل على أنقاض العائلات الدمشقية الأصيلة من اللذين هجرهم النظام وسرق أموالهم واستبدلهم بأمثال محمد حمشو عديمي الكرامة أساؤو لدمشق وتاريخها ودم السوريين في رقابهم الى يوم القيامة.

    الدمشقي

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    هدول تجار عرب يا بيي! شو بدكم يطلع منهم انت وياه. يعني عرب جرب و شو كمان مالا مزية و مالا فكاها و الابضاي يجي عالشام يا بي بلكي العن نفس انفاسو. شو ووى؟ ولا ادع5س عليكم

    معاوية الأموي

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    أنا في تعليقاتي دائما بلف وبدور وبرجع وبقول إن النظام العلوي الحقير الطاغية اللي متسلط على بلدنا سواء الأب المقبور الملعون أو الابن المعتوه دمر كل شيء في سورية.. كل شيء من الألف إلى الياء.. همش تجار دمشق الذين كونوا ثرواتهم من عرق جبينهم وأبعدهم عن الواجهة، وتحالف مع بعض التجار حديثي النعمة الذين صنعهم هو بنفسه وقدمهم على أنهم تجار دمشقيين.. في حلقة من مسلسل مرايا... لمح ياسر العظمة إلى هذه النقطة حين كان يمثل دور ضابط مخابرات ألقى عناصر القبض على بعض التجار,... فجاء ابنه (مكسيم خليل) ليتوسط لديه للافراج عن هذا التاجر تحت مسمى أنه (زلمتنا) وأن الاموال التي لديه ما هي إلا أموالنا وضعناه صورة وواجهة أمام الناس!!! لعنة الله عليك يا حافظ لعنة أبدية تبقى معك إلى قيام الساعة

    أسامة

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    ما زلتم تقولون ثورة مباركة؟ لا ثورة ولا مباركة والنتائج خير دليل. للعلم أنا لست بعثياً ولا علوياً ولا شيعياً بل مسلم سنّي ، وأكره هذا التصنيف ولكن كان لزاماً أن أذكر ذلك لأن المعارضون هم من يقفز لهذه التسميات وودت أن أقطع هذا الطريق من أوله. يشرفني كل سوري ومن أي نحلة هو منها. سلامي للجميع.
6

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات