أحوال البلاد والعباد (1) سورية الغنية ورئيس الوزراء المنتحر!

أحوال البلاد والعباد (1) سورية الغنية ورئيس الوزراء المنتحر!

مشهد رقم (1)

في نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي كان أساتذتنا يكررون علينا مقولة إن سورية غنية بمواردها وثرواتها الطبيعية وانها قادرة على إطعام خمسين مليون مواطن ، وكانت الحياة حينها بسيطة والجميع يعيش ببساطة وتكاليف الحياة كانت تحت السيطرة، وكان هناك نوع من التكافل الاجتماعي يوفر المساعدة المادية والعينية – غير المعلنة – للأسرالفقيرة - ولم يكن للدولة دورفي ذلك، ولم تكن هناك حاجة لشعارات تطلقها الحكومات المتعاقبة (للتلاحم مع الجماهير وتعبئتها من أجل التحرير) لأن حكومات تلك المرحلة من تاريخ سورية التي كانت تتعاقب على السلطة نتيجة انتخابات حرة، تفرز تحالفات بين أحزاب لها برامجها الخاصة بها تتفق ورؤيتها لخدمة الوطن، حتى دخلنا عصر الشعارات المدججة بعد انقلاب 8 آذار1963 ودخلنا زمن الوحدة والحرية والاشتراكية، وتعرفنا على نوع من الحكم لم يعرفه العالم الثالث ولا الرابع، وأصبحت الحكومات تتشكل دون أن نعرف آليات تشكيلها، ولم يكن للسوريين رأي في إختيارها ولم تكن هناك انتخابات ولابرلمان ولاأحزاب ولاسياسات واضحة تُعلن للناس تستهدف طمأنتهم على مستقبلهم، وانشغل الحزب الحاكم بتصفية قياداته وإحكام السيطرة على البلد وأهمل مصالح الناس وبموجب الوصاية التي منحها لنفسه في حكم البلاد مارس سياسة التجريب في الحكم ، وانهك البلاد والعباد بالنتائج الكارثية لسياساته، وكل يوم نحصد خسائر جديدة بدءاً من نكسة حزيران ونكسات أخرى لاحصرلها في الاقتصاد وإدارة شؤون البلاد ، وطبعاً كان يتم ذلك دون وجود برلمان يحاسب او صحافة حرة أو هيئات رقابية للمحاسبة والإصلاح مع غياب الرأي الأخر، وتم تسييس المجتمع عبر منظمات شعبية ومهنية وحرفية، تم تعيين قيادات غير مؤهلة لها أدت الى تحويل هذه المنظمات الى هيئات كرتونية شكلت عبئاً على المجتمع السوري، وكانت النتيجة مزيداً من تراكم الفساد وتوسيع دائرة المستفيدين من الامتيازات المادية التي ارهقت موازنات هذه المنظمات وحرفتها عن القيام بدورها لخدمة قواعدها، وتحسين مستوى حياتهم!

المفجع في الأمر هو عدم إعتراف كل الحكومات المتعاقبة باخطاءها وأغرقتنا بالأغاني والأناشيد التعبوية التي تشيد بالانتصارات الساحقة والماحقة والتغني بها إعلاميا كإنجازات يتم الاحتفال بها على مدار العام ، وكل عام!!

وحتى لايقال انني أرى بعين واحدة ، لابد من الاعتراف بان هناك من امتلك الشجاعة ودفع ثمن سوء الإدارة والفشل ، وتم تحميله كل الفساد الذي استشرى في الدولة فتمت اقالته من منصبه وهو محمود الزعبي الذي بقي رئيساً للوزراء لمدة 13 سنة ،لم يتم فيها اكتشاف فساده، مع اننا كمواطنين كنا نتمنى ان تنفرط السبحة ويعترف باقي الرفاق (بإنجازاتهم) وتبين لنا ان محمود الزعبي كان هو الفاسد الوحيد في تاريخ حزب البعث ، لذا عندما استيقظ ضميره بعد تنحيته، انتحرباطلاق (رصاصتين) على رأسه!! مع اننا كمواطنين اكتشفنا لاحقاً انه كان الأقل سوءاً بين الرفاق!

أذكر ان بعض الزملاء عندما كانوا يقومون بإجراء حوارات مع المرحوم الزعبي للصحافة الرسمية سواء عندما كان رئيسا لمجلس الشعب او للحكومة ، كانوا يقومون بكتابة الأسئلة والأجوبة معاً بتفويض منه كدليل على طيبته أو سذاجته، لافرق!!

علبة السمنة على دفتر العائلة !

الكلام الذي كنا نسمعه من أساتذتنا من أن سورية الغنية بثرواتها قادرة على تلبية حاجات شعبها ليعيشوا برفاهية تحول إلى كذبة كبيرة على أيدي الرفاق ، وأصبحت سورية عاجزة عن إطعام أقل من نصف الخمسين مليون نسمة التي كنا نسمعها من اساتذتنا قبل 8 آذار1963، حتى أصبحنا في فترة الثمانينات نحصل على علبة السمنة من وزن 2 كيلو بموجب دفتر العائلة بما يعادل خمسين ليرة، وأصبح توزيع المواد التموينية والفواكه حكراً على المؤسسات الاستهلاكية والحصول عليها كان يستوجب ان يتمتع المواطن بقدرات عضلية خاصة تؤهله للتزاحم أمام بوابات المؤسسات ، وطويل العمر هو الذي يتمكن من الحصول على حصته من تلك المواد ، وبعد تجاوزمرحلة الاحتقان التمويني وتحرير الاستيراد واقتصاد السوق الاجتماعي والانفتاح الذي حررالحزب من (شعاراته) ، توفرت كل أنواع السلع، وبدلا من توفر نواع واحد من السمنة اصبح هناك عشرات الأنواع ومعظمها كان يستورد من تركيا أيام سنوات العسل بين البلدين، لكن مع ارتفاع كارثي في الأسعارترافق مع هبوط مستمر في سعر صرف الليرة السورية، وبدلا من خمسين ليرة لعبوة 2 كيلو اصبح سعرها أكثر من 2000 ليرة سورية، حتى أصبحنا نتحسر على أيام القلة والندرة ودفتر العائلة!

هذا مثال عن سلعة واحدة ينطبق على كل السلع الأخرى من الأجبان والألبان والحبوب، ورغم حرص الحكومات على الحفاظ على استقرار أسعار الخبز الذي يشهد ارتفاعاً بين وقت وآخر مما يشكل عبئاً كبيراً يثقل ظهر العائلات التي يتجاوز عدد افرادها الخمسة!

منذ يومين كنت أتسوق حاجات بيتي من سوق الهال القديم، وأصابني الذهول عندما رأيت أحد الباعة يضع امامه كرتونة كبيرة فيها عبوات أكياس بلاستيكية فيها عظام من وزن كيلو غرام واحد، والبائع ينادي عليها بصوت جهوري ( تعا خدلك كيلو عظام منشان الشوربة، وماراح تندم على احلى شوربة) وفي مكان آخر من السوق كان هناك بائع آخر يعرض أكواماً من بقايا فضلات وعظام الدجاج المكشوفة والذباب يغطيها، مع أن الجميع يعلم ان كل اللحامين كانوا يرمون العظام والمشتقات الناتجة من الذبائح في الحاويات ، ونفس الأمر بالنسبة لبقايا الدجاج!

مشهد رقم (2)

الشوارع الرئيسية في أي مدينة تشبه الاوردة التي تنقل الدم من القلب عبر الشرايين الى كل أجزاء الجسم، والشرايين هي الشوارع الفرعية والجانبية التي تتفرع عنها.

اليوم تسللت الى شرايين دمشق أميرة المدن، ومشيت في أزقة وحارات لم اشاهدها من قبل، كونها تتفرع من أسواق تجارية تشهد ازدحاما دائما بالناس، ودخلت في الحارات المتفرعة من سوق مدحت باشا والتي يطلق عليها اهل الشام (سوق الصوف) ورغم صعوبة المشي في تلك الحارات بسب كثرة البسطات في ازقة ضيقة وازدحام كثيف للناس الذين يبحثون عن البسة رخيصة تتوافق مع قدراتهم الشرائية المتدنية، فقد شعرت بمتعة أنستني كل القلق والخوف الساكن في أعماقي منذ اربع سنوات ، دخلت في حارات سد وحارات تدور بي، وكأنني الف حول نفسي، باعة يصرخون بعلو الصوت على سلعهم وتنافس سلمي بين الباعة على اجتذاب الزبائن، وجوه تقرأ فيها الطيبة مع حزن مخزون في القلب لايجد طريقة للتعبيرعنه مع حذر شديد من (متطفل) يمشي بالجوار لايبحث عن سلعة ولارغبة بالشراء، يتجنبه أصحاب البسطات والمارة بوقت واحد!

قادتني خطواتي إلى الشاغور الجواني ومن ثم الى تقاطع (باب الصغير) وبجواره متصلبة الشاغورالتي تتفرع عنها عدة حارات واحدة تذهب الى الدقاقين والبزورية (ولها حديث آخر) وطريق أخر يعود الى مدخل الشاغور مع تقاطع الطريق الواصل بين الحميدية وباب الجابية والسويقة باتجاه باب مصلى ، وطريق آخريصل الى شارع ابن عساكر.

تحوّلتْ كثير من البيوت العربية القديمة الى مقاه تقدم الاراكيل ومطاعم تقدم السندويش وورشات لتصنيع المدافئ التي حولت انتاجها من تصنيع مدافئ المازوت الى الحطب وبأسعار عالية لاتتناسب مع قدرات الناس الشرائية مع ارتفاع أسعار الحطب الذي ترافق مع ارتفاع أسعار المازوت، لكن جولتي لم تنته دون الحصول على بضع أرغفة من خبز التنور الساخن!

التعليقات (3)

    معاوية الأموي

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    الله يلعن هالعصابة المجرمة التي أفقرت البلاد والعباد ونهبت الأموال.. الله لا يرحمك يا حافظ ولايحسن اليك ويجعل مثواك قعر جهنم في وادي ويل

    حوراني مغترب

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    للأسف الشديد ابتلع معظم الشعب السوري دعاية النظام بأن محمود الزعبي كان فاسداً. والشيء الأكثر إيلاماً هو ابتلاع النخبة المثقفة لهذا الطعم الذي روج له النظام. محمود الزعبي وحتى بداية التسعينات لم يكن يمتلك بيت وليس قصر في بلدته خربة غزالة وعندما توفيت والدته وقدم المسؤولون في الدولة السورية لتعزيته تفاجئوا بأنه لا يوجد مكان مناسب لاستقبال الناس العاديين فما بالك بمسؤولي الدولة. ما سرقه موظفون صغار في اجهزة الدولة يعادل عشرات الاضعاف ما سرقة محمود الزعبي على افتراض انه سرق.

    حوراني مغترب

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    وتكملة لدعاية النظام , قام بانتاج مسلسل غزلان في غابة الذئاب والذي يتناول ابن محمود الزعبي و صدق السذج بأن محمود الزعبي و ابنه هما أكبر اللصوص في سوريا بينما كانت تركة جميل الاسد بعد وفاته فقط 4 مليار دولار و مجموع سرقات محاسب شركة الطيران السورية فقط 8 مليار دولار ونحن نتكلم عن حرامية النظام الصغار فما بالك بالكبار.
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات