الخبر القصير المكوّن من أقل من خمسين كلمة، يختصر تاريخ سورية الحديث. يختصر عقلية تحكم البلد منذ عقود. ثمة كتيبة نظامية موالية للنظام السوري، تشبّح بحمده، وتقدّس له، تحمل إسم رستم غزالة. وثمة عملية تفجير قام بها شبيحة وأحرقوا قصراً لا تعود ملكيته لأحد الثوار ولا لأحد الناشطين أو المعارضين، بل لأحد أركان النظام السوري. وهناك درعا أيضاً، منبع الثورة ووطأة قدمها الأولى. ثلاثة عناصر تؤرّخ لمرحلة تستحق دراسة معمّقة في نفسية النظام السوري. كما تستفزّ غواية البحث في ذهنية عشائرية في مكان وطائفية في مكان آخر ومناطقية ومريضة ومذعورة وشبّيحة ومتسلّطة ومفردات أخرى كثيرة.
عندما خرجت القوات السورية من لبنان عام 2005، أخذت معها تمثالين لحافظ الأسد وابنه باسل، كانا منصوبين في منطقة حلبا. وليس فعل انتراع التمثالين، فعلاً إنسحابياً ينتمي إلى اللباقة. بل هو فعل وقائي حَذَرَ أن يقوم أحد الأهالي بتدميرهما أو إسقاطهما. وليس اكتساب التماثيل ذلك البعد الرمزي، سوى دليل على عبثية النظام واعتماده على الرمز وخلقه لأصنام يعبدها الناس ويخافون منها، قبل خوفهم من صاحب التمثال. ثمة خوفان هنا.
خوف يسبق الآخر ويحضّر له ويؤجّج رهبته.
في بداية الثورة، قام أفراد من الجيش النظامي ومن الشبّيحة بـ"إسقاط" عدد من تماثيل "القائد المفدّى" حافظ الأسد، كفعل استباقي حَذَرَ أن يقوم الثوار بذلك. وفي هذا الـ"إسقاط" الإرادي، خصلة عشائرية تفضّل قتل "شرفها" و"عرضها" قبل أن ينتهكهما آخرون. وسمعنا بداية الثورة أيضاً كيف قام رجال ضيعة علوية بإحراق عائلاتهم وبيوتهم خوف أن يصل الثوار إليهم ويغتصبون نساءهم أمام أعين أطفالهم.
اليوم أيضاً، يصدر أحد أركان النظام أمراً بإحراق قصره، "شرفه" و"عرضه"، قبل أن يصل الثوار إليه ويقومون بإحراقه. ويقول ما معناه "حتى لو سقطت القرداحة، لن أقبل أن يقال سقطت بلدة رستم غزالة"! ماذا يعني ذلك؟ هل رستم غزالة معارض؟ كلا بالتأكيد. لكنه في الصميم، لا يربط وجوده بوجود بيت الأسد. وأيضاً، يعتبر أن المنطقة التي ينحدر منها ملكاً له، مزرعته، مثله كمثل بيت الأسد. العائلة الحاكمة تنظر إلى كل سورية كمزرعة لها. وكل ضابط مخابرات أو مسؤول كبير يعتبر أن منطقته، ملكاً له أيضاً. الأمر بهذه البساطة. وباقي الضباط الصغار وأفراد الجيش النظامي والمتطوعين فيه طوعاً أو غصباً، كلهم يعملون على حماية تلك الممتلكات الكبيرة والصغيرة. اليوم يقاتلون لحمايتها وحماية سكّانها.
البارحة كانوا يعملون في تنظيف أرضياتها وتلميع واجهاتها والطبخ لسكّانها وإطعامهم والسهر على راحتهم وتبديل حفاضات أطفالهم والتبضّع لهم والتهريج والطاعة..
من جهة أخرى، يدلّ فعل "حرق الذات" هذا على اعتراف ضمني بوجود آخر على أرض المعركة. وليس أي آخر!
آخر قوي، يحقق انتصارات ويدنو شيئاً فشيئاً، ويلامس حدود القلاع الحصينة التي بناها كل ضابط لنفسه ولعائلته وعشيرته. ولست واهمة عندما أتحدث عن قوة الآخر. وأعرف أنه لن يتساوى في إجرامه مع إجرام نظام يقتل أبناء طائفته ويضحّي بهم للحفاظ على بقائه. إلا أن لا عودة إلى الوراء مهما دمّروا البلد وأحرقوه وعذبوا سكانه. لا عودة إلى زمن الممتلكات. ألا يكفي الثورة فخراً أننا شهدنا لحظة يحرق بها أحد أركان النظام بيته، خوفاً من آخرين؟
ألا يكفينا أننا شاهدنا لمرة واحدة في حياتنا على الأقل، آخراً غير الأبد؟
التعليقات (4)