كان صوت السوريين مدوياً وأصبح الهتاف الخارج من الحناجر المتعطشة للحرية، يشبه محكمة أطلقت حكمها من جهة ويشبه فجراً تتشكل فيه خيوط النور كقانون يؤسس لدولة تليق بالسوريين وعمقهم من جهة أخرى، فاهتز ركن الأسد وكاد يسقط ولم ينفعه الرصاص باغتيال شعبه فأسعفته جامعة العرب بالدابي.
جاء الرجل مرتدياً ثوب العفة وفي رأسه صورة جنرال عربي أخذ نياشينه في زمن الهزائم، فخلع عفته على فراش سرير فندق سوري تعرفه المومسات جيداً في ظل حكم جنرالات يشبهونه، لم يصدق أن في البلاد ثورة، واكبه الأسد وأشعل فتيل المدافع والطائرات وصفق له سياسيو العالم، فقدم لهم المعلم كباحث استراتيجي يليق بهذا الصف من سياسيي العالم، فعلمهم أصول البلادة، لا شك أن المعلم لم يتفاجأ أن في روسيا وزير خارجية يشبهه، وكان واضحاً للجميع أن الغرب تلقف ذلك وأعطى الأسد إذناً باستعمال الكيمياوي، ليصبح موت الناس مجرد بزنس سياسي، يأخذ من خلاله الأسد وقتاً إضافياً تتشكل فيها لجان وجلسات، ويأخذ ذلك المستعرض في البيت الأبيض نصراً وهمياً أنه خلص المنطقة من سلاح كيمياوي، فمات الناس وبقي الأسد.
بقي الولد يتسلى بتقطيع الأجساد الغضة وبقي العالم يتسلى بتقطيع الوقت، فجاء دي مستورا أخيراً ضمن تلك السياسة البليدة، ككاهن يطهر الخطايا ويغدق العطايا، ومن حلب ومن براميل الطائرات الروسية، وفي جوار الطائرات الأمريكية، يقدم بنود هدنة لمن أصبحت ذكرياتهم وخلاياهم رماداً.
يظن المبعوث الدولي المعتق بتمرير الوقت أن الركام في شوارع ومدن وقرى حلب مجرد حجارة، وأن حقد مافيا الأسد ومن خلفه ملالي فارس يمكن أن يتحول إلى قدود حلبية تبدل المزاج العام "ويا دار ما دخلك شر"، يعتقد أن الشهباء التي تتربع على إرث الحضارة ستمنح شهادة حسن سلوك لقاتل مسموم بحقد الطائفية البغيض، وترمي خلفها مئذنة عمري درعا الذي تربع على إرث الرجولة، يعتقد هذا السفير الأممي أنه يمكن للسوريين أن يسمسروا على دماء أبنائهم كما السياسيين الأجراء، وأن حلب قد تكون مفتاح الهزائم لثورة هزت التاريخ البشري.
زرعوا ومن خلفهم قادة معارضة هشة في رؤوس بعض رواد المقاهي والنراجيل، أن الحياة أصبحت كئيبة بلا الليالي الملاح، فصدقوا أن السوريين يختصرهم بضعة تجار في هذه المدينة أو تلك مع فلذات قلوبهم المدللين، أو أنهم يمثلون أولياء الدم في سوريا.
ربما نقول للسيد دي مستورا أن حلب توافق والسوريون كذلك، شريطة أن تقنع قادة مجلس أمنك أن يعطوا السوريين بضعة براميل همجية من مخزن الأسد وبضعة طائرات روسية قذرة لتتساوى أرض الطرفين المتنازعين كما تسميهما بالضرر والنكبة، لربما حلب ومن خلفها السوريين توقع الهدنة إن أمكن لكم يا سادة العالم المتحضر أن تقدموا لها برميلا كيمياوياً واحداً تختار هي على من ترميه.
بالتأكيد لا حلب ولا السوريين أصحاب الكرامة وطالبي الحرية سيرمون بلادهم وجيرانهم بالبراميل، وبالتأكيد هم طلبوا أسلحة بسيطة لرد الشر الأسدي الإيراني عن بيوتهم فمنعتم عنهم أدنى الحقوق التي يكفلها القانون الذي تدعون رعايته.
في علم الأخلاق يصبح القفز فوق الحقائق تزويراً، وفي علم التاريخ يكون تجاهل عظمة المدن تحريفاً، فحلب التي حملت سوريا منذ مئات السنين، تدرك جيداً أن المسافة بينها وبين درعا هي وطن، وتدرك جيداً أن الأوطان لا تبنى على قياس حارات ولا ترسم حدودها الحواجز، وتدرك حلب أن مبادرة تديرها روسيا قد ختمت أوراقها بسوق اللطميات الفارسية التي لا يفقهها العرب ولا نقاء حضارتهم، وحلب التي صبرت على البلوى وخسرت زهرة شبابها، ليست مفتاح هدن يطبخها تجار أزمات ويضع توابلها بضعة معارضين يتلاعبون بالألفاظ والشعارات على طريقة حكواتي المقاهي.
عندما كتب ابن حلب عبد الرحمن الكواكبي عن طبائع الاستبداد قبل نحو مئة عام، كتب عن أوطان يستبد فيها الطغاة على أبناء جلدتهم، وعندما ثارت درعا تلقفت صوتها بانياس وحمص، وعندما استهدف الأسد مآذن الجوامع، كان يعلم أنه يريد لهذه القامات الممتشقة في فضاء سوريا أن تنحني.
ولكن ما لم يفهمه الأسد ومن خلفه أن المآذن لا تنحني، وأحرار سوريا لن ينحنوا، وشعب صمد على كل الويلات، يدرك جيداً أن هذا النظام لم يعد لديه إلا روائح العار التي اختنق بها، ويوقن أن السيد دي مستورا ومن خلفه، جاء لا لينقذ شعباً بحجج واهية بل لينقذ معتوهاً لا يتدخل بالوساطة لأجله إلا من تسمح له أخلاقه أن يسكر بدماء الإنسانية، ولن يقبل معارضاً أصيلاً التفاوض لأجله إلا إذا كان معتوهاً، ولكم بجنيف عبرة.
التعليقات (2)